لم تبذل السلطة السياسية جهداً لضرب أسس «المجتمع المدني». «التغييريون» انقسموا على أنفسهم، بعدما نفخوا حجمهم مصمّمين على نشر مرشحيهم في كل لبنان، فانتهوا بلوائح «من قريبو» محمّلين أنفسهم ما يصعب على الأحزاب السياسية المنخرطة بالعمل الانتخابي منذ عشرات السنين القيام به
لا صورة أفضل من صورة مقاعد الصالة الفارغة في المؤتمر الذي عقده مرشح دائرة صور ــ الزهراني رياض الأسعد لوصف حال «المجتمع المدني»، ولو أن الأسعد لا يعبّر عن ذلك «المجتمع» بشكل تام من حيث خوضه التجربة الانتخابية من قبل. قد يذهب الأخير وغيره من المجموعات إلى تبرير قلة التفاعل معهم بحجة حجز الصالة قبيل ساعة فقط من موعد المؤتمر واهتمامهم بتأمين الكاميرات التلفزيونية أكثر من الحضور. لكن الفكرة هنا أن الكاميرات نفسها ومختلف وسائل الإعلام التي رفضت تلبية طلب الناشط المدني ــ أي ناشط مدني أو من يسمي نفسه كذلك ــ كان سيجدها قبيل عامين تتزاحم على بث حدث سخيف مباشرة على الهواء، ولو كانت الدعوة موجهة قبل خمسة دقائق. وفعلياً، إن استسهال مسألة الحصول على الهواء يومها قاد اليوم إلى استسهال تكرار التجربة نفسها في الانتخابات النيابية، ولا سيما أن قضية مقارعة الأحزاب السياسية أو الدولة بشكل عام، قضية جذابة. وإذا بـ«المدنيين» لا يجدون من يلتفت إليهم، يجلسون وحيدين في قاعة مقفرة يتحدثون فيردّ الصدى. سقطت الأحلام الوردية عند أول استحقاق جدي، ليدفن «المجتمع المدني» طموحه، من دون أن تضطر «أحزاب السلطة» إلى استعمال نفوذها ومالها ووسائل إعلامها و«المستقلين» التابعين لها من أجل فرط أي لائحة تشكل تهديداً محتملاً.
مدنيون بطعم السلطة
هكذا لم تتمكن المجموعات المتحالفة تحت مظلة «وطني» من تشكيل لائحة في دائرة بيروت الثانية، إذ بقيت رهن قرار من رئيس لائحة «بيروت مدينتي» في الانتخابات البلدية الأخيرة إبراهيم منيمة. آثر الأخير أخذ «وطني» وردّه إلى أن ضاقت المهل وبات من الصعب تشكيل لائحة جدية، وأبلغهم تشكيله لائحته الخاصة بمعزل عنهم. واللائحة هذه عبارة عن تحالف بين منيمنة والحزب الشيوعي وبعض الأعضاء الذين عملوا مع «بيروت مدينتي». وهناك أمثال بشار قوتلي الذي يتشابه في التجربة السابقة ورياض الأسعد، اتخذ فشل المجموعات كذريعة لركوب لائحة «المجتمع السعودي» التي يقودها رئيس تحرير جريدة اللواء صلاح سلام. هناك من فقد الأمل منذ البداية من «مشروع مدني حقيقي»، فاختار المسار الأسهل بقبول أول عرض يوجه إليه كحال رنا شميطلي في لائحة فؤاد مخزومي. ففي النهاية، كان المقعد للبعض أهم من المبادئ ومحاربة الفساد، ولو أن غالبيتهم يدرك مسبقاً أن حظوظه أقل من معدومة بالفوز، ولكنه أصر على حمل لقب «مرشح سابق».
تجربة «بيروت مدينتي» البلدية الفاشلة أضعفت «المجتمع المدني» الذي منحه ناخبون كثر ثقتهم (مروان طحطح)
الإغراء بالسلطة يفضح، ولكن ما يفضح أكثر هو عدم حرص هذه المجموعات على صون صورتها وهرولتها للتحالف مع حزب «سبعة» الذي لم يتوانَ عن استعمال أدوات السلطة في جذبه للمرشحين وللأسماء الرنانة. فباتت الإعلامية راغدة ضرغام التي قضت نصف عمرها في سراديب البيت الأبيض، «مجتمعاً مدنياً». وضرغام نفسها لم تستطع إكمال المسرحية أكثر، فانسحبت من المعركة، من «بيت الوسط» واضعة نفسها بتصرف سيده. وفي هذا السياق تعترف مصادر تحالف «وطني» بالخطأ، وتشير إلى أن الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها كانت بالتقرب من مجموعات لم تحتكّ وإياها على الأرض، ولديها من الناشطين المتفرغين للعمل ليلاً ونهاراً ما يثير الريبة. ويعترف هؤلاء بأن «حزب «سبعة» وغيره ممن قدم نفسه كمعارض للسلطة نجح بفرض نفسه عليهم من ناحية توسيع التحالف لإعطائه زخماً أكبر، ولكن كان أن أصبحوا هم المجتمع المدني ونحن الطارئين».
لائحة «طلوع الروح»
في بيروت الأولى، تشكلت لائحة «كلنا وطني» بعد مخاض عسير في اللحظات الأخيرة قبيل انتهاء مهلة تسجيل اللوائح، رغم أهمية بيروت بالنسبة إلى كل المجموعات. وقد انسحب أحد المرشحين عن المقعد الأرثوذكسي، وهو نائب رئيس لائحة «بيروت مدينتي» البلدية طارق عمار لأسباب وصفها «بعدم نقاوة اللوائح لقبول البعض بمرشحين لا يرتقون لتمثيل نضالاتنا وإن اعتبروا أنفسهم رافعات لعملنا». أما اللائحة المشكلة «بطلوع الروح» فتضم: جيلبير ضومط (ماروني)، زياد عبس (أرثوذكسي)، لوسيان بورجيلي (كاثوليكي)، بوليت ياغوبيان ولوري حيطانيان وليفون تلفزيان عن مقاعد الأرمن الأرثوذكس ويوركي تيروز عن مقعد الأرمن الكاثوليك، إضافة إلى جمانة سلوم عن مقعد الأقليات.
في الجنوب الثالثة خمس لوائح تحمل صفة «التغيير»، وفي بعبدا «نصف المدنيين» مع الكتائب
ومن بيروت إلى بعبدا حيث كان البعض (بول أبي راشد وأجود عياش وألفت السبع) قد عقد تفاهماً مسبقاً مع حزب الكتائب على أساس أنه يمثل المعارضة، فيما أظهرت التحالفات الأخيرة أن الكتائب لا يمكن أن تغرد خارج أسوار السلطة. فكانت لائحتان: الكتائب مع الناشطين المذكورين في الأولى، ومجموعات «مدنية» مع «مواطنون ومواطنات في دولة» في الثانية («كلنا وطني») التي تضم رئيس المرصد الشعبي لمحاربة الفساد المحامي واصف الحركة (المقعد الشيعي) وعلي درويش (شيعي)، رانية المصري (المقعد الدرزي)، زياد عقل وماري كلود الحلو وجوزيف وانيس على المقاعد المارونية. الانقسام نفسه تسلل إلى الشوف وعاليه لأسباب عدة، أحدها «الخلاف بين «سبعة» والناشط مارك ضو على اختيار بعض المرشحين»، فكانت لائحتان، «كلنا وطني» و«مدنية». تحالف «وطني» ومجموعة الوزير السابق شربل نحاس انسحبا من المتن الجنوبي إلى المتن الشمالي حيث يترشح نحاس بنفسه على المقعد الكاثوليكي إلى جانب فيكتوريا الخوري وأديب طعمة ونادين موسى وإميل كنعان (موارنة) وجورج الرحباني (أرثوذكس).
«إصلاحيون» بالجملة
في كسروان ــ جبيل عمود لائحة «كلنا وطني» وزير عهد الرئيس إميل لحود، يوسف سلامة الذي لا يزال مندهشاً بنفسه من تحوله إلى «مجتمع مدني». سلامة ليس وحيداً، يلاقيه كل من عماد قميحة وعلي الأمين في منتصف الطريق، ولو أنهم يمثلون بقايا 14 آذار لا الثامن منه. علق هؤلاء لافتة «المجتمع المدني» في دائرة الجنوب الثالثة، بالتحالف مع القوات اللبنانية، ومشوا بلائحة اسمها «شِبعنا حكي».
وفي تلك الدائرة اختلف الشيوعي والمستقلون والتحالف على التغيير، فكانت خمس لوائح «إصلاحية». وفي الجنوب الثانية، تمكن رياض الأسعد من تشكيل لائحة في وجه لائحة حزب الله ــ حركة أمل، فيما لم يتمكن «المدنيون» من دخول دائرة صيدا ــ جزين.
عجز «المدنيون» عن تأليف لائحة موحدة في بيروت الثانية وفي الشوف ــ عاليه و«الشمال الثالثة»
لا أثر لـ«كلنا وطني» في بعلبك ــ الهرمل، حيث قائد «المجتمع المدني» ليس سوى الأمين القطري السابق لحزب البعث فايز شكر، الذي يضع يده بيد التيار الوطني الحر والمحامية سندرلا مرهج في لائحة «مستقلة». فيما لا أحد يعرف أعضاء اللائحة المسماة «المجتمع المدني» في البقاع الغربي وراشيا. ويتمثل «كلنا وطني» في زحلة بلائحة لا لون لها ولا طعم، يفترض أن تقارع بلدوزرات المال والسلطة. ومن زحلة إلى أقصى الشمال حيث يرأس القائد السابق للفوج المجوقل في الجيش العميد المتقاعد جورج نادر لائحة «قرار عكار» المدنية! وفي طربلس ــ المنية ــ الضنية، تشكلت لائحتان: «كلنا وطني» و«المجتمع المدني المستقل» عن المجتمع المدني نفسه. أما في دائرة الشمال الثالثة، فقد نجح تحالف «وطني» والشيوعي وعونيين سابقين بتشكيل لائحة موحدة، فيما انسحب زملاؤهم في «من أجل الجمهورية» ومجموعات بشرّي «المدنية»، من المعركة. الأخيرون انتظروا «الكتائب» والنائب السابق قيصر معوّض طوال أشهر، فما كان من الأخير والنائب سامي الجميّل إلا أن تسللا إلى أحضان القوات يوم السبت الفائت.
في تقييم المجموعات المدنية لعملها المستجد في الانتخابات النيابية، يرى غالبية الناشطين أن محاولات التوسع أجهضت احتمال تشكيل لوائح جدية، وهو ما أدى إلى التحالف مع شخصيات لا تتشابه والناشطين بشيء، بهدف «تسكير» اللوائح في كل لبنان. فيما كان الأجدى التركيز على ثلاث لوائح قوية في ثلاث دوائر والعمل لأجلها برويّة، حتى تتمكن من منافسة الأحزاب جدياً. إلا أن محاولة تقليد السلطة «أوقعتنا في فخها، فتشكلت لوائح هشة ولا يجمع أعضاؤها إلا اسم اللائحة». والنتيجة أنه قبل «مزاحمتهم بالصناديق لم نتمكن من مزاحمتهم بالمرشحين». كل ذلك لا يلغي واقع طراوة المجموعات في العمل السياسي وإمكان اكتسابها درساً من تجربتها الحاضرة، رغم أنها لم تتعلّم من تجارب «إسقاط النظام الطائفي» و«حراك النفايات». وإثر الانتخابات البلدية عام 2016، أضعفت تجربة «بيروت مدينتي» الفاشلة هذا «المجتمع» الذي منحته الثقة مجموعات كبيرة من الناخبين (كان عددهم كبيراً إلى حدّ أنه فاجأ «المدنيين» أنفسهم)، فأثبت أنه، في اليوم التالي للانتخابات، لا يختلف عن «المجتمع السياسي» بالوعود الفارغة والمشاريع المستحيلة التطبيق.