شهدت العاصمة اللبنانية، وتحديداً واجهتها البحرية، أمس، فصلاً جديداً من فصول التكاذب «القومي». احتفال مدجج بعبارات العروبة، لمناسبة تدشين جادة باسم الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، بحضور المندوب الملكي نزار العلولا وحشد من المدعوين، فيما تنافست معظم المحطات التلفزيونية اللبنانية، الملتزمة سعودياً، على نقل الاحتفال بحدث من شأنه جعل شوارع العاصمة «رخيصة» وغب الاستثمار، على أنواعه.
... وصار للملك سلمان شارعه في بيروت. حاله حال ملوك ورؤساء وأمراء وقادة، لكل منهم حكايته مع بلد اعتاد التسول والوصاية منذ ما سمي «زمن الاستقلال» حتى يومنا هذا.
صار للملك سلمان شارعه الذي لن يتعود على نسبته إليه أهل عاصمة يختارون عادة الاسم الذي يستسهلون ترداده أو يتصل أكثر بذاكرتهم البعيدة أو القريبة، بدليل عشرات الشوارع التي تغيّرت مسمياتها بقرار من مجلس بلدية العاصمة، وظلّ الناس يرددون ما يعتقدونه مألوفاً أكثر بالنسبة إليهم.
صار للملك سلمان شارعه الذي لن يجعل صورته أو صورة نجله محمد، «طاغية» على ما عداها من صور جميلة لبيروت التي قاومت العدوان والاحتلال، وكانت أول عاصمة عربية تقهر الجندي الإسرائيلي وتجعله يفرّ هارباً، منادياً أهلها أن لا يطلقوا النار عليه قبل 36 عاماً.
صار للملك سلمان شارعه الذي لا يمكن أن يبرّئه من تهمة الشراكة في الدم الفلسطيني المهدور في يوم العودة وفي كل أيام فلسطين ومواعيدها، بينما يتباهى ولده بالعلاقة مع الكيان الإسرائيلي الغاصب، ويشيد في حواره مع مجلة «ذا أتلانتيك» الأميركية بالاقتصاد الإسرائيلي المتنامي ويذهب إلى حد المجاهرة بوجود «الكثير من المصالح الاقتصادية المحتملة التي قد نتشاركها مع إسرائيل».
بأيّ صفة تولى البخاري دعوة المئات من اللبنانيين إلى احتفال على أرضهم لتسمية شارع باسم ملكه؟
صار للملك سلمان شارعه الذي لن يجعل صور أطفال اليمن تغيب عن بال جمهور لبناني وعربي وعالمي، يحمّل هذه القيادة السعودية مسؤولية إبادة شعب فقير وتجويعه وجعله عرضة لأمراض وأوبئة وحصار وتجويع وإذلال لا مثيل له في التاريخ الحديث.
في الشكل، بدا مشهد احتشاد بعض الطبقة السياسية في «شارع الزيتونة»، مهيناً، لا بل مساوياً لتلك الإهانة التي استشعر بها كل لبناني يوم احتُجز رئيس حكومة لبنان سعد الحريري في الرياض وأذلَ وأهين. بدت الطبقة السياسية محتجزة كلها في عشرات الأمتار المربعة، تنتظر احتفالية باهتةً، تزامنت مع تسريبات جديدة تولتها هذه المرة صحيفة «نيويوركر» الأميركية، وفيها يجزم الصحافي الأميركي المعروف دكستر فيلكينز، نقلاً عن مسؤول أميركي سابق، بأن السعوديين وضعوا الحريري «على كرسي، وصفعوه مراراً وتكراراً»، قبل أن يقرأ خطاب الاستقالة، بحسب تعبير الكاتب نفسه (راجع ترجمة أبرز ما جاء في المقال المذكور في الصفحة نفسها).
كان حري بمن احتشدوا أن يسألوا أنفسهم: بأيّ حق يتولى دبلوماسي اسمه وليد البخاري توجيه دعوات رسمية بالبريد، ويدوياً وعبر الهاتف لمئات الشخصيات اللبنانية للمشاركة في احتفال تسمية شارع أو زاروب في العاصمة باسم سلمان بن عبد العزيز. هل حصل هذا الدبلوماسي على تفويض من المجلس البلدي في بيروت، أم أنه أعطى هو التفويض للمجلس البلدي بتسمية الشارع وأخذ على عاتقه مهمة الدعوة والتحشيد. وكيف قبل مسؤولون لبنانيون في الدولة أن تأتيهم الدعوة من سفارة دولة عربية أو أجنبية لتدشين أو تسمية جادة باسم رئيس دولة، أياً كان اسمه أو رتبته أو إنجازاته؟ هل وافق كل أعضاء المجلس البلدي على ذلك، وبينهم نجل مرشح برتقالي يخوض المعركة كتفاً إلى كتف في لائحة التحالف المدعوم من حزب الله وحركة أمل في بيروت الثانية. هذا المرشح (إدغار طرابلسي) الذي استوجب نزوله بالباراشوت إقصاء مرشح حزب علماني ساهم في تحرير العاصمة في عام 1982 من الاحتلال الإسرائيلي؟
في الشكل أيضاً، ليسمح لنا النائب وليد جنبلاط، لا شيء يبرر لأهل العاصمة أن يتقبلوا منه كيل عبارات المديح لسلمان بن عبد العزيز و«نضاله في الكتيبة السعودية الى جانب الجيش المصري لرد عدوان عام 1956». هذا القبض مجدداً على قاموس أو مفردات العروبة والمقاومة والصمود، فقط لأن وليد البخاري ناوله الدعوة يداً بيد، من دون أن يبادر إلى مساءلة ضيفه عن شكل الدعوة ولا عن مضمون ما قاله ابن الملك للصحافة الأميركية، وخصوصاً لجهة إبداء شديد إعجابه بالنموذج الاقتصادي لدولة الاحتلال.
في الشكل أيضاً، كان على سمير جعجع أن يدقق في ما إذا كان إغراء «السلفيات» في «الزيتونة باي»، سيرتد إيجاباً أو سلباً عليه في صناديق الاقتراع، بينما كان من حسن حظ كل من أمين الجميل وسامي الجميل وأشرف ريفي وفارس سعيد ورضوان السيد أن «يُعاقبوا» بحجب الدعوة عنهم بطلب من رئيس حكومة لبنان الذي انتفض لكرامته، بالاقتصاص ممن حرّضوا محلياً، متناسياً، أو بالأحرى متعمّداً تناسي من أهانوه في السعودية مباشرة وأراد أن يحتفل بهم، أمس، على طريقته.
وعلى سيرة الشكل، كان من حسن حظ الوليد بن طلال أن فندق الفور سيزن، الذي باعه في عز أزمة اعتقاله لمتمولين، بينهم عدد من اللبنانيين، وتم تسييل أمواله لصندوق محمد بن سلمان، كانت واجهته البحرية شريكةً في احتفالية احتجاز بعض الطبقة السياسية اللبنانية التي كان بمقدورها أن تخترع أعذاراً بدل أن تتنافس على الصورة أو الصف الأمامي واستبدال «فولارات» ثورة الأرز الحمراء بـ«فولارات خضراء»، اقتداءً بعلم مملكة يريد مليكها الوريث أن يجعلها قدوة للثورات!
نعم، للمملكة ولمليكها أن يقرر العودة إلى لبنان، لكن أن يختار المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا وممثله في لبنان وليد البخاري، افتتاح جادة في العاصمة اللبنانية، وقبلها إمامة مصلين في صلاة الجمعة في بعلبك (بالشراكة مع ممثل المخابرات الإماراتية في لبنان السفير حمد الشامسي)، فإنها مصيبة المصائب، ولا تدل على أن هناك من استفاد من دروس الماضي القريب، يوم استدعى الراحل رفيق الحريري إلى السرايا الكبيرة ضابطاً سورياً برتبة لواء اسمه غازي كنعان وسلّمه مفاتيح بيروت. الحريري في حينها قال مخاطباً كنعان بأنه «من أوائل المدافعين عن مصلحة لبنان العليا». الحريري الابن كاد يستعير العبارات نفسها عندما خاطب سلمان بأنه كان «سباقاً بمد يد العون للبنان في كل المراحل والأزمات».
مثل هذه العودة السعودية إلى بيروت هي عودة عابرة، حتى لو زُنّرت بهبة مالية ما في باريس 4 أو بدعوة لرئيس جمهورية لبنان إلى القمة العربية المقبلة في الرياض أو بالعودة عن قرار حظر سفر المواطنين السعوديين إلى لبنان.
للعودة شروطها اللبنانية، أولاً بأن تتحرر الطبقة السياسية من عادة الوصاية وإدمان الحكاية ذاتها ولو تبدل الضباط والسفراء والقناصل.
ليس بخلوة ثلاثية بين الحريري وجنبلاط وجعجع، برعاية العلولا، في فندق فينيسيا، تُرمم أواصر 14 آذار. كان الحريّ بجعجع أن يكون شريكاً في احتفال البيال بذكرى 14 شباط 2005، التاريخ ـــ الدم الذي أخرجه من السجن، لا أن ينتظر من أسرَ رئيس حكومته قبل خمسة أشهر، لكي يجمعه به للمرة الأولى منذ نصف سنة تقريباً.
وللعودة شروطها، بأن يحرر لبنان نفسه من شخصنة علاقة بين دولة ودولة. علاقة بلغت ذروتها يوم كانت «سعودي أوجيه» تذبح بظفرها، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ففاز مستثمرو رصيد هذه الشركة سياسياً ببلد عن بكرة أبيه، حتى بلغ الفساد معدلات قياسية تكاد لا تستثني أحداً من طبقته السياسية، وها هي الشركة نفسها عندما تصبح مفلسة، يسعى من خسروا رصيدها الكبير دولياً وإقليمياً إلى التعويض بحفلة تعويم في الداخل اللبناني، تكاد لا تستثني مناقصة أو موازنةً، والآتي أعظم من باريس 4 وإخوته.
للعودة شروطها بأن لا يتم التعامل مع لبنان بوصفه مجرد «مضارب» في «شارع الزيتونة». أن يقتنع السعوديون بأن بلداً لم يكن تعداد سكانه يتجاوز الثلاثة ملايين نسمة، دفع ربع مليون شهيد قبل أكثر من أربعة عقود من الزمن دفاعاً عما اعتقده هذا الفريق أو ذاك مصلحة عليا لبلده. يعني ذلك أن هذا الشعب اللبناني يملك من الشراسة ما يجعله ضنيناً على سيادته، حتى لو فرّط بها هذا أو ذاك من سياسييه.