يلاحظ القارئ عودة واشنطن إلى تكرار ادعاءاتها المملّة والبليدة عن ارتباط حزب الله بتجارة المخدرات، وهي تهمة ليست بجديدة، إذ سبق أن شنّت في ثمانينيات القرن الماضي حملة عليه بالتّهمة نفسها. ومع أنه ليس ثمة من سبب لتصديق أيّ خبر أو اتهام أو ادعاء يأتي من واشنطن ضد حزب الله وغيره من القوى المعادية لسياسات الغرب الاستعماري، خصوصاً في هذه الأيام التي تشهد صعوداً غير مسبوق لما يسمى «الأخبار الكاذبة»، ومحاولة الغرب الاستعماري فرض احتكاره للكذب، ورغم توافر العديد من التقارير والمؤلفات والأفلام الوثائقية، الغربية، وفي مقدمتها الإنكليزية والأميركية، التي تثبت انخراط وكالة الاستخبارات المركزية في تجارة المخدرات الدولية، بما ينفي الحاجة لمناقشة هذه الادعاءات الخبيثة الجديدة/ القديمة، إلّا أن من المفيد الاستعانة بخبرة بعض أهل الاختصاص عن المادة، ومنها كتابات الصحافي الأميركي المرموق جوناثان مارشل، الكاتب في الصحف الأميركية المؤسساتية مثل النيويورك تايمز والواشنطن بوست وول ستريت جورنال، وصاحب المؤلفات العديدة عن تجارة المخدرات في العالم، وصاحب مئات المقالات عن الموضوع.

العرض الملخص التالي، المستند إلى كتابات مارشال، أخذته من بعض كتاباته عن تلك الادعاءات القديمة المتعلقة باتهامات واشنطن وعملائها للحزب في الماضي، ليتبين أن الحملة الجديدة ما هي إلا تكرار فج وفظ لأكاذيب سابقة مستندة إلى تقارير مسيّسة تفتقد إلى الحد الأدنى من المهنية والموضوعية، وتلك الصادرة أساساً عن العدو الصهيوني وبعض الجهات المرتبطة به. مؤلفات الكاتب الأميركي ومقالاته موثقة، لكننا آثرنا حذفها من عرضنا الآتي، بعد استئذانه، ويمكن للقارئ المهتم العودة إلى الأصل الإنكليزي.

أورد تقرير استخباري إسرائيلي بشأن سوريا مزاعم عن مكائد يدبّرها حزب الله لتسميم إسرائيل بالمخدرات


الصحافي الأميركي طرح الآتي: السؤال/التساؤل هو، هل كان حزب الله يشجّع تجارة المخدرات السرية ويستفيد منها، أو أنه، بكل بساطة، تبنى سياسة «عش ودع غيرك يعيش»، الواقعية إزاء مزارعي وادي (البقاع) الفقراء؟!
الحقيقة أن حزب الله لم يكن في حاجة إلى إضافة أرباح المخدرات إلى أرصدته، وذلك بفضل التمويل السخي الذي كان يوفره له النظام الثوري في إيران. فالأدلة المأخوذة من الأفلام الوثائقية التي تعود إلى عام 1988 والتي تصوّر تجارة المخدرات في البقاع، توضح أن حزب الله والعشائر العاملة في مجال المخدرات كانا يتبادلان الحذر ولا يتدخلان بشؤون بعضهما.
بمرور السنوات، كانت مصادر عديدة إسرائيلية أو مؤيدة لإسرائيل تؤكد تورّط حزب الله في عمليات خبيثة لتجارة المخدرات. والتزاماً بالأجندة الأيديولوجية لتقرير اللجنة الفرعية لفريق شومر «schumer report»، الذي يعود إلى عام 1992 والذي يتحدث عن تجارة سوريا بالمخدرات، عزا التقرير المذكور كل المساعدات التي ترد إلى حزب الله من إيران إلى أرباحه من تجارة المخدرات، لكن من دون أن يورد اسم مصدر واحد. 
الباحثة الإسرائيلية في مجال المخدرات، راشيل إهرنفلد، شنت هجوماً على حزب الله، بالقول: «في منتصف الثمانينيات، أصدر حزب الله فتوى شرعية يجيز بموجبها اللجوء إلى تجارة المخدرات الممنوعة كمصدر للتمويل وكسلاح ضد الغرب»؛ ونقلت الادعاء بقوله: «نحن نصنّع تلك المخدرات للشيطان أميركا واليهود. إذا لم نستطع قتلهم بالأسلحة فلنقتلهم بالمخدرات».

وزارة الخارجية الأميركية (عام 2001): لبنان لا يُعدّ دولة رئيسة لإنتاج المخدرات أو لعبورها(هيثم الموسوي)


لكن الكاتب الأميركي يقول: هنا وَجُب طرح السؤال عن مدى الفائدة التي يجنيها حزب الله لدى إعلانه بكل صراحة ووضوح سياسته الرامية إلى تسميم الغرب. وما المصدر الذي استندت إليه الباحثة لدعم هذه الفتوى التي تجرِّم قائلها؟ بالاطلاع على المؤلف الذي وضعه المحلّل الإسرائيلي يوسف بُدنسكي (Yosef Bodansky)، فإن القارئ لا يعثر على أي إحالة لمراجع.
المراجع الإسرائيلية لا تكرّر جميعها نفس النغمة. ففي عام 1991، قال رافي بِلِد، رئيس استخبارات الشرطة السابق، إن حزب الله «حتى الآن، يبدو تورطه ضئيلاً في تجارة المخدرات». كما أورد تقرير استخبارات الشرطة الإسرائيلية حول سوريا مزاعم كتّاب آخرين حول مكائد يدبرها حزب الله لتسميم إسرائيل بالمخدرات، لكن التقرير اعترف بأن «لا وجود لدليل فعلي يدعم وجود هذه «المكيدة»». كما قال بعض الخبراء «الإسرائيليين»، الذين لم تُكشف أسماؤهم لديفيد بروكس (David Brooks) الصحافي في وول ستريت جورنال، عام 1992، إن حزب الله هو المليشيا الوحيدة في لبنان «التي لم تتورط في تجارة المخدرات... لأن حزب الله يعارض المخدرات من منطلق ديني».
المسؤولون الأميركيون اختلفت آراؤهم بهذا الشأن. ففي عام 1988، عبّر أحد المسؤولين في إدارة مكافحة المخدرات عن شكّه بتورط حزب الله في تلك الصناعة الممنوعة، وقال لأحد الصحافيين، مع اعترافه بمحدودية المعلومات المتوفرة لدى الإدارة، «نحن نعرف أن بعض الأشخاص في حزب الله متورطون في المخدرات. لكن هل هذا يعني أن منظمة حزب الله بكاملها متورطة؟». 
وفي نفس العام، قال مسؤول كبير في وزارة العدل الأميركية في عهد ريغان لصحيفة وول ستريت جورنال: «اتضح أن بعض أفراد من حزب الله متورطون في تجارة المخدرات لدعم بعض المكوّنات الأساس للمنظمة. لكننا لا نعرف إن كانت الأموال تذهب مباشرة لدعم الأنشطة الإرهابية». ويقال إن وكالة الاستخبارات المركزية توصلت للاستنتاج أن «الإيرانيين علّموا حلفاءهم اللبنانيين كيفية زراعة خشخاش الأفيون»، وهذا تقويم تدّعي إدارة مكافحة المخدرات أنها لم تطلع عليه. لكن باعتبار أن الأفيون كان منتشراً في لبنان، لا يمكن تصديق أن المزارعين المحليين كانوا، عام 1988، في حاجة لأن يتعلموا من الإيرانيين كيفية زراعة الخشخاش.
في عام 1988، نقل صحافي يعمل في صحيفة واشنطن تايمز المحافِظة عن «مصادر مقربة من إيران»[!]، مجهولة الهوية، تؤكد أن «الانخفاض الحاد في الدعم المالي الإيراني» لحزب الله، أدى إلى «زيادة اعتماد المنظمة على تجارة المخدرات». لكن مهم ملاحظة أن حزب الله لم يحقق الهيمنة السياسية على منطقة البقاع الشمالي الغنية بالمخدرات، قبل عام 1989 بما ينفي صحة الادعاء، دوماً وفق الكاتب. وقد تزامن ذلك مع شكوى المزارعين اللبنانيين من أن حزب الله كان يهدد أسباب رزقهم لدى محاولته وضع حد لزراعة المخدرات. أحد سكان المنطقة قال: «بعض الشيوخ يقولون: «توقفوا عن التعامل بالحشيش»، ونحن نجيب «أعطونا بدائل»». مزارع آخر قال: «قررت التوبة. لكني غرقت في الفقر. كان ثمن البطاطا بخساً، والفلاحون هنا لا يحصلون على مساعدة من أي نوع من الحكومة أو من المنظمات الأجنبية، وهكذا عدت لزراعة الحشيش لكسب المزيد من المال».
في نهاية المطاف، أدى موقف حزب الله المتشدّد من المخدرات إلى بروز خصم سياسي رئيس، وهو صبحي الطفيلي، الأمين العام السابق للمنظمة. الطفيلي وجّه خطابه إلى المزارعين الفقراء في البقاع، بمن فيهم مزارعو المخدرات، متهماً حزب الله بإهمال معاناة أهل المنطقة. وإثر تطبيق برامج صارمة لزراعة محاصيل بديلة، قاد الطفيلي «ثورة الجياع» للمطالبة بمشاريع ري وبمحاصيل بديلة قابلة للنمو، كما ورد في الصحيفة البريطانية «فاينَنشال تايمز» بتاريخ 12 تموز 1992.
لم يكن حزب الله يخشى أن يُتَّهم بالتصرفات «القذرة» عندما يتعلق الأمر بمقاومة إسرائيل. فأحد الأدلة المأخوذة من محاكمات إسرائيلية بالغة السرية تتعلق بالمخدرات يشير إلى أن حزب الله «لعب بعقول» العديد من التجار اللبنانيين، الذين كانوا يعملون مع الشرطة الإسرائيلية أو كمخبرين عسكريين، واستخدمهم لتسقُّط المعلومات الاستخباراتية من الجنود الإسرائيليين وتجار المخدرات الإسرائيليين. فقد وُجِّهت تهمة إلى رقيب إسرائيلي، جرى اعتقاله بتهمة إدارة شبكة تهريب كبرى، بأنه نبَّه حزب الله إلى مواقع الجيش الإسرائيلي عبر الحدود. كما ساعد بعضُ الحلفاء اللبنانيين السابقين لإسرائيل في مجال المخدرات، حزبَ الله في اختطاف كولونيل احتياط ورجل أعمال إسرائيلي، ويقال إنه كان تاجر مخدرات أيضاً، لاستخدامه في صفقة تبادل سجناء عام 2004.

دراسة مكتبة الكونغرس: في غياب وثائق كافية، لا يمكن الافتراض أن مبالغ كبيرة من المال تأتي من تجارة المخدرات


جَمَعَت مكتبة الكونغرس عام 2002 مجموعة من «الأدلة» ضد حزب الله لصالح وزارة الدفاع الأميركية وبناءً على طلب الأخيرة، حيث وردت بعض المزاعم التي كانت قد انتشرت في منتصف التسعينيات القائلة: إن أنصار حزب الله من الشيعة الذين يعيشون في أميركا اللاتينية، ولا سيما في المنطقة الحدودية بين الدول الثلاث، باراغوي والبرازيل والأرجنتين، كانوا يجمعون الأموال للمنظمة من خلال أنشطة عديدة غير مشروعة، بما في ذلك المخدرات. الدراسة خلصت للاستنتاج أنه «في غياب وثائق كافية، لا يمكن الافتراض أن مبالغ كبيرة من المال تأتي من تجارة المخدرات». 
ثم تمضي الدراسة التي تحوي ادعاءات غير موثقة فتقول:
إن دور حزب الله في إنتاج المخدرات والإتجار بها في لبنان لا يبدو أنه ذو أبعاد كبيرة. فمعظم المصادر نادراً ما تأتي على ذكْر المخدرات في نقاشها لموضوع حزب الله أو لإنتاج المخدرات، أو حتى عندما تتحدث عن وادي البقاع. بل إن أحد المصادر، وبدل الزعم بوجود دور لحزب الله، يورد أقوالاً ينسبها إلى أحد المزارعين في وادي البقاع تفيد بأن حزب الله لا يشجع زراعة القنب الهندي بل يتسامح إزاءها، لأن المزارعين سيموتون جوعاً إذا توقفوا عن زراعته. مع ذلك، يبدو أن بعض العاملين لصالح حزب الله يشاركون، في مستوى ما، بتجارة المخدرات، حتى ولو لم تكن هذه المشاركة تتمتع بالأهمية في ما يتصل بتجارة المخدرات خارج لبنان.
لكننا نجد منظوراً مختلفاً لهذا الموضوع في مصادر إسرائيلية تزعم أن حزب الله والتجار اللبنانيين والسوريين متورطون بعمق في إنتاج المخدرات والإتجار بها. في دراسة أجريت عام 1998، اعترف المحللون العاملون لدى مؤسسة السياسة الدولية لمكافحة الإرهاب في هرتسيليا (international policy institute for counterterrorism in herzlia)، بوجود جهود رسمية للحدّ من زراعة القنب الهندي والخشخاش في لبنان، خلال التسعينيات، لكنهم ادَّعوا أن اللبنانيين والسوريين كانوا قد تحولوا آنذاك إلى إنتاج وتسويق الهيروين والكوكايين، بدل زراعة المحاصيل.
ومع أن الإسرائيليين يتمتعون بدراية واسعة عندما يتعلق الأمر بجيرانهم، فعلينا ألا ننسى أنهم لا يوفرون جهداً لتلويث سمعة حزب الله والسوريين، الذين يشتبكون معهم في صراع منذ عقود. وبالتالي ينبغي أن نقوِّم تلك التأكيدات[!] على ضوء هذه الحقيقة.
كما ينبغي تقويم مدى صحة الادعاءات الإسرائيلية بالمثل وبالمقارنة مع النتائج التي توصلت إليها وزارة الخارجية الأميركية في تقريرها حول الاستراتيجية الدولية للحدّ من انتشار المخدرات، الصادر عام 2001، الذي يقول إن: «لبنان لا يُعدّ دولة رئيسة لإنتاج المخدرات أو لعبورها، رغم أنه يظل دولة مثيرة للقلق بالنسبة للولايات المتحدة». ورغم العودة النشطة لزراعة القنب الهندي منذ عام 2000، ما زال إنتاج القنب الهندي والأفيون يتعرض للضغط. «ليس ثمة من نشاط ذي أهمية لمخدرات ممنوعة في لبنان؛ ويبدو أن هذا النشاط اختفى عملياً نتيجة يقظة الحكومتين السورية واللبنانية».
ورغم المحاولات المستميتة التي بذلتها إسرائيل للضغط، أزالت إدارة كلينتون، في أواخر عام 1997، سوريا ولبنان من قائمة وزارة الخارجية التي تضم الدول الرئيسة المُنتجة للمخدرات.

المصدر: جريدة الأخبار