على عكس طلات الموفدين السعوديين، اختصر الموفد الملكي نزار العلولا برنامج زيارته لتقتصر على محطتين أساسيتين: المشاركة في تدشين جادة الملك سلمان، ورعاية لقاء ضم سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع في مقر إقامته في فندق فينيسيا
المشهد يتكرّر. المُستشار الملكي السعودي نزار العلَولا في لبنان. كل مرّة بعد الزيارة، تضجّ الكواليس اللبنانية بالتوقّعات. السؤال الأبرز، ما الذي تُريده السعودية من لبنان وهو قاب قوسين من إجراء انتخاباتِه النيابية؟
لعل محاولة التعرف إلى ما دار في لقاء «فينيسيا»، أول من أمس، تجيب عن هذا السؤال. فقد اجتمع الموفد الملكي، بحضور القائم بأعمال السفارة السعودية في لبنان الوزير المفوض وليد البخاري بدايةً برئيس الحكومة سعد الحريري، ثم توسّع الاجتماع ليشمل رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ورئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط. لقاء يستحقّ التوقف عنده. يعكُس مضمون الزيارة وبرنامجها «تسليماً سعودياً بالواقع اللبناني، كما هو، نتيجة تداخُل عامِلين: محلّي ودولي، فرضا على المملكة منذ تشرين الثاني الفائت التّراجع عن قرار اللعب بالنار داخل الساحة اللبنانية، وهو قرار كان سيشعل لبنان، لكن ارتداداته لن تقتصر على الساحة اللبنانية» على حد تعبير مصادر مواكبة توقفت عند الآتي:
أولاً، تعيد صورة الفينيسيا إلى الذاكرة حقبة مُمتدّة بين العامين 2005 و2009. ذروة التدخّل السعودي في لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. الأقطاب الثلاثة لـ«ثورة الأرز» مجدداً في حضرة الراعي الإقليمي. لا تشي تعابير وجوههم بأن أزمة ما حصلت، وأودت بالعلاقة بينهم إلى حد الوقوف في متاريس متقابلة، إثر اختطاف المملكة لرئيس الحكومة قبل خمسة أشهر، وإجباره على الاستقالة من الرياض. أوحت الابتسامات المصطنعة التي ارتسمت على محيّا الثلاثي كأن شيئاً لم يكن، لكن الحقيقة الانتخابية نسفت القواسم المشتركة بينهم عن بكرة أبيها. هي عودة إلى الدور، لكن بلا ركائز كان يستند إليها سابقاً.
ثانياً، تميزت رحلة العلولا هذه المرة، ليس بمغادرة منطق الحقد الذي لطالما كان يميّز أداء المملكة، بل بالسعي إلى عقد أول جلسة مباشرة بين جنبلاط ــ الحريري ــ جعجع. ففيما التقى رئيس الحكومة، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي مرتين، بعد عودته من رحلة الاحتجاز السعودية، ظلّ اللقاء بين الحريري وجعجع مؤجلاً، رغم محاولات الوزيرين الوسيطين غطاس خوري وملحم رياشي لتذليل كل العقبات وتأكيد الطرفين أن لا عائق يمنع حدوث اللقاء، حتى أن التأكيد الأخير جاء على لسان رئيس تيار المُستقبل من على باب بكركي، قبل يومين، بقوله إن العلاقة مع جعجع «ممتازة واتصلت به للمعايدة، وسنلتقي قريباً». كل ذلك لا ينفي أن حجم التباعد بين الحريري والقوات آخذ بالاتساع، على خلفية أزمة الاحتجاز ومن ثم مسار الانتخابات وما سينتج منها من توازنات.
ثالثاً، ليسَ بالإمكان فصل ما سعت إليه الرياض في بيروت هذه المرة، عن حركتها المُتصاعدة في لبنان منذ فترة، بالتنسيق مع دولة الإمارات وممثلها في لبنان. لقاءات وزيارات وجولات لا تتوقّف منذ عودة البخاري إلى بيروت. يوضِح هذا المسار عودة سعودية هي أقرب ما تكون إلى تقبل الوقائع اللبنانية الدامغة، وقد ترجمتها بإجراء مُصالحة بين حلفاء مفترضين، لكل واحد منهم حساباته مع الآخر، لا بل مع السعودية نفسها.
رابعاً، لا تعني هذه المُصالحة بأي حال من الأحوال إعادة إحياء اصطفاف فريقيّ 8 و14 آذار. ليس لأن «السعودية لا تريد ذلك»، وفق المصادر نفسها، بل لأن «الظروف ليست مواتية لأن تفرض ذلك على أصدقائها، الذين أصبح كل منهم يتصرف وفق أجندته ومصالحه وسلم أولوياته، وصولاً إلى التصرّف على قاعدة «يا ربّي نفسي».
خامساً، لوحظ أن الجانب السعودي كان خلال خلوة الفينيسيا «مُستمعاً أكثر منه متحدّثاً». لكن المفارقة التي ميّزت اللقاء، ظهور تناغم سياسي لافت للانتباه بين جعجع والحريري، وهما أطلقا مواقف سياسية ترضي خاطر السعوديين وتطلبهم السياسي لبنانياً، خصوصاً لجهة إعادة إحياء مضمون الخطاب السياسي العدائي لحزب الله.
سادساً، أظهر وليد جنبلاط تمايزاً عن الحليفين السابقين، تحديداً في ما يخص علاقته بالمكونين الشيعيين حزب الله وحركة أمل، وخصوصاً العلاقة التاريخية التي تربطه بالرئيس نبيه برّي «بشكل خاص». رفض الزعيم الدرزي أية محاولة لجره إلى الاشتباك السياسي الداخلي، مبدياً حرصاً استثنائياً على عدم مغادرة موقعه الوسطي. أما بالنسبة إلى التواصل «فلم يبد جنبلاط أي اعتراض، وقال إن هذا الأمر موجود بدليل التحالفات الانتخابية التي حصلت مع المستقبل والقوات في عدد من الدوائر».
هذه المناخات التي عكستها مصادر مواكبة تناغمت مع أجواء عكستها أوساط بارزة في تيار المستقبل، وهي أكدت لـ«الأخبار» أن «هناك إرادة سعودية لإعادة وصل ما انقطع بين الحريري وجعجع وبين الحريري وجنبلاط وبين الأخير ورئيس القوات». وأشارت إلى أن «الجانب السعودي لم يعكس أي رغبة سعودية في عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل عام 2009». لكنه أكّد «ضرورة التنسيق والتواصل الدائم بين حلفائه»، وأبرز أمامهم طريقة إدارة ما كان يُسمّى فريقَ 8 آذار، إذ لم تعُد العلاقة بين مكوناته كما كانت في السابق، لكن هذه القوى، وبقوة دفع من حزب الله، تنسّق في ما بينها عندما يتعلق الأمر بملفات كبرى واستراتيجية.
واعتبر الجانب السعودي، بحسب الأوساط نفسها، أن «ما حصل بشأن التحالفات الانتخابية قد حصل، وبالتالي لا يُمكن تعديله، خصوصاً أن اللوائح قد أعلنت والانتخابات على الأبواب». لكن يمكن منذ الآن التفكير في مرحلة ما بعد الانتخابات. وأكدت الأوساط ذاتها أن «العلاقة بين جعجع والحريري عادت إلى ما كانت عليه»، وأن الخلوة «تخلّلها استعراض لأمور المنطقة، ولا سيما في سوريا، وقد حصل إجماع على ضرورة الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني في لبنان». لكن ذلك «يجب أن يحصل تحت سقفين أساسيين: الحفاظ على السيادة اللبنانية أولاً والاستقرار الاقتصادي ثانياً».
خلاصة اللقاء، أن الرياض تراجعت عما سعت إليه في الماضي القريب من تحويل لبنان إلى ساحة مواجهة مع حزب الله، ولو أدى هذا الأمر إلى هزّ الاستقرار السياسي والأمني. وهذا التراجع يعود إلى الموقف الدولي وتحديداً الأميركي الرافض لخيار كهذا. كذلك يعود إلى موقف القوى السياسية المحلية التي عبّرت عن نضجها في أكثر من محطة وتأكيدها أنها ليست في وارد تبني أي خيار جنوني، الأمر الذي اضطر بعض الرؤوس الحامية في المملكة إلى التخلّي عن سياسة التخلي عن لبنان، والعودة إليه وفق استراتيجية جديدة وناعمة. عودة تأخذ في الحسبان أن وليد جنبلاط لن يكون بمقدور أحد أن يتعامل معه إلا «على القطعة». عودة لا تطيح حسابات سعد الحريري الذي يؤكد ليل نهار أنه لن يسمح بأي أمر يهدّد تحالفه مع الرئيس ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل. حتّى سمير جعجع نفسه «يبدو أنه استفاد من تجربة استقالة الحريري»، ولم يعُد في وارد خوض حرب وحده على طريقة «يا قاتل يا مقتول».