يخوض الرئيس سعد الحريري معركته الانتخابية، بكل ما يمكن أن يتوافر له من أسلحة. بعد أن كاد يستنفد خطابه السياسي ونفوذ الأجهزة الأمنية التابعة له، استنجد بدار الفتوى... يريد رئيس الحكومة أن يتفيأ بالعمائم، وتسخير بيوت الله ومنابرها من أجل دفع الناس للتصويت للوائحه خصوصاً في العاصمة.
منذ أيام تولّى أحد مُستشاري رئيس الحكومة سعد الحريري (بسّام تميم) مُهمّة دعوة رجال الدين في بيروت إلى مأدبة غداء في بيت الوسط. يُظهر ذلك حرصاً مُستقبلياً كبيراً على حشد أكبر عدد منهم. فاختيار موظف برتبة مُستشار لتنفيذ مهمّة كهذه (يُمكن إيلاءها لأي موظف في البروتوكول والمراسم) دليل اهتمام بإنجاح اللقاء، وتأمين جمع من الأئمة في جلباب سياسي أزرق يستطيع الحريري أن يتفيأ به انتخابياً. مع ذلك، تغيّب كثر من وزن أمين دار الفتوى الشيخ أمين الكردي، شيخ القرّاء محمود عكاوي، القاضي والمستشار في المحكمة الشرعية الشيخ عبد الرحمن الحلو، المدير الإداري في المحكمة الشرعية الشيخ القاضي محمد النقري، والمدير العام الأسبق للأوقاف الشيخ هشام خليفة (اعتذر مسبقاً).
يقول أحد الحاضرين إن الذين لبّوا الدعوة فوجئوا عند دخولهم بتسجيل الأسماء التي حضرت، وبوضع إشارة «صح» إلى جانبها، وكأن المقصود التدقيق بمن حضر وبمن غاب. من حضر، تصوّر بأن الهدف من اللقاء هو التشاور في هموم وطنية ودينية عامة وبينها «مشكلة التحويلات المالية التي تصرفها دولة الإمارات لدار الفتوى من مخصصات المفتين والخطباء والمشايخ وتأميناتهم الصحية». غيرَ أن الحريري أخذ المشايخ إلى مكان آخر. أمام حضور لم يتجاوز المئة معمم، كان واضحاً أن رئيس تيار المستقبل «يريد استخدام السلك الديني في معركته الانتخابية». حتى أن أحد الشيوخ حاول الاستفسار عن أمر المساعدات، فجاءه جواب أحد الحاضرين «مش وقتها»!
تغيّب كثر عن الدعوة منهم أمين الفتوى الشيخ أمين الكردي
خلال مأدبة الغداء التي أقيمت على شرف رجال الدين، يتقدمهم مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، في حضور الرئيس تمام سلام ووزير الداخلية نهاد المشنوق ومرشحي لائحة «المستقبل» في بيروت الثانية، دعاهم الحريري إلى «التضامن لحماية هوية بيروت وقرارها السياسي والوطني من خلال دعوة أهلها، لرفع نسبة الاقتراع إلى الحد الأقصى وقطع الطريق أمام كل محاولة لوضع اليد على العاصمة وممثليها».
عملياً، ليس كلام رئيس الحكومة سوى دعوة سياسية مباشرة للأئمة لحثّ الناس على الانتخاب، وانخراط رجال الدين في تعبئة عامة الناس. هي محاولة لتسييس بيوت الله والزجّ بها في الصراع السياسي الذي يخوضه تيار المستقبل في بيروت وغيرها من المناطق. فلماذا يستنجِد الحريري بهم؟ ألا يُعد إقحام دار الفتوى في الانتخابات خرقاً لبنود المبادرة المصرية في دار الفتوى؟ كيف يُمكن لتيار يدّعي بأنه مدني وعابر للطوائف والمناطق أن يستخدم منابر الجوامع للتأثير في الناخبين؟ هل استنفد التيار كل وسائله السياسية والانتخابية ولم يتبّق له بعد الخرزة الزرقاء إلا المشايخ لاستنفارهم انتخابياً؟
باتَ واضحاً ان تيار المُستقبل يعيش أزمة ثقة. ثقة بمرشّحيه. ثقة بجمهوره. ثقة بماكينته التي استرجعت الحرس الانتخابي القديم. ثقة بضعف إمكانية التأثير لعدم توافر الموارد المالية أو عدم كفايتها. أزمة ثقة تجعله يفتش عن أية وسيلة تقيه شرّ الخسارة الكبرى. لذلك، لا بد مما لا بد منه. استثمار العمامات الدينية وتقمص دورهم بإصدار ما يشبه الفتوى الملزمة لهم بحث الناخبين على رفع «الخرزة الزرقا» في مساجدهم.
لطالما ميّز تيار المستقبل نفسه كونه تياراً مدنياً. وضع قواعد فصل بين البعدين الدّيني والسياسي، وهو صاحب نظرية العبور إلى الدولة. وقد شكّل طرحه الانفتاحي هذا باباً للولوج إلى كل المناطق والطوائف ولو أن الجمهور السني بقي رافعته الأولى. لجوء المستقبل إلى المشايخ في زمن الانتخابات، إنّما يدلّ على أزمة عميقة بينه وبين جمهوره، جعلته يتوسّل دار الفتوى ونفوذها تدعيماً لمواقعه الانتخابية.
صحيح أن اللجوء إلى المؤسّسات الدينية من قبل أحزاب سياسية في لبنان يعُد أمراً بديهياً. لكن أن يصار إلى تحويل دار الفتوى والمشايخ إلى شريك سياسي مضارب، فهذه نقطة خطرة على البيئة ذاتها قبل أن تشد العصب المذهبي تجاه الآخرين. قد يقول قائل إن هذا أسلوب تتبعه مختلف الجهات، بمن فيها حزب الله وحركة أمل، لكن الفارق أن الأخيرين يرسمان خطوطاً حمراء تتعلق بالمحظور المذهبي، فهل للمستقبل القدرة نفسها؟ هذا أمرٌ مشكوك به… أضف إلى ذلك، أن ما يفعله تيار المُستقبل والمفتي دريان ومجلسه الشرعي، يخرق المبادرة المصرية التي نصّت في أحد بنودها على التزام المفتي الجديد «الحفاظ على دار الفتوى كمرجعية وطنية إسلامية بعيداً من الخلافات السياسية، وتجنيب الدار التدخلات من السياسيين»، علماً أن المفتي كان حاضراً في عدد من المهرجانات الانتخابية للتيار، وتحديداً عندما أعلن الحريري أسماء مرشّحيه إلى الانتخابات في البيال.
وكانت لافتة للانتباه دعوة الحريري، أمس، «جيران قريطم» إلى باحة قصر قريطم. اضطر الرجل أكثر من مرة لقطع كلمته «تأثراً». استرجع أدبيات الدم والضحية والشهادة. قال إننا «نخوض هذه الانتخابات ليس لأجل السلطة، فهي آخر همي، وآخر همي الكرسي. الأهم لدي هو أنتم، الشباب والشابات، كبيركم وصغيركم. هذا ما كان يهم رفيق الحريري وهذا ما يهم اليوم سعد الحريري، فقد أعطيتمونا الكثير، حين كان رفيق الحريري في هذا البيت وحين استشهد».
كل ما سبق، يؤّكد أن المستقبل يدخل المعركة في ظل ظروف انتخابية وسياسية ومالية صعبة. لا يريد التيار لنتائج الانتخابات أن تأتي مخيّبة. معظم الأرقام والإحصاءات تشي بنتائج غير جميلة… ما غداء الأمس في بيت الوسط الذي تميز بحضور كثيف لخطباء وأئمة صلاة الجمعة، وعصرونية قصر قريطم سوى ترجمة للمخاوف، لا سيما أن الأرقام الأخيرة تحدّثت عن أن نسبة اقتراع الناخبين السنة في بيروت لن تتجاوز الـ47 في المئة، وأن نسبة المؤيدين له بين هؤلاء لا تزيد على 55 في المئة!
ماذا بعد هذه وتلك؟ وهل يتخذ القرار بجعل السادس من أيار موعداً غير مؤكد؟