لا حديث يعلو على حديث الانتخابات في كلّ لبنان، إلا في عرسال. البلدة التي عاشت سنوات صعبة نتيجة الحرب السورية، وتحرّرت أراضيها قبل أقل من عام من الإرهابيين الذين استباحوها، لا تزال تعيش تداعيات ما حلّ بها على مختلف الصعد. حاجاتها كثيرة وتجاربها مع السياسيين مريرة، وهذا ما يصعّب مهمة الباحثين عن أصواتها من خلال خطابات رنانة أو وعود عرقوبية.
أمام بوابة منزلها جلست الوالدة منهكة تنتظر ابنها والزوج، ومن حولها التفت النسوة بلباسهن الأسود مكتوفات الايدي. صمت عميق تقطعه بضع كلمات تصارع غصة في القلب، فتخرج مخنوقة. «أحمد يا صاحب الطلة الحلوي يا أمي. وين رحت وتركتني». تسكت الأم الثكلى كمن تنتظر الإجابة، وحين تفتقد صوت ابنها تعيد المناداة ثانية بصوت أعلى «يااا امي وينك»، لكن بلا جدوى. يختنق صوتها بغصات البكاء الخفي، وكأن الناس هنا تستحي من حزنها فتداريه. حزن لا يشبه حزن آخرين في لبنان. هنا يعبر الميت الى عالمه الآخر، فلا يتحول الى شارة تعلق على أكتاف الحاضرين ولا ترفع له صور على جدران المنازل والأحياء. هكذا يموت الفقير، بلا ضجة، في عرسال.
يمرّ الوقت ثقيلاً على البلدة التي كانت تودّع ثلاثة من أبنائها عندما زرناها. محمد ونجله أحمد الحجيري وجارهما يوسف عودة، قتلوا جراء انفجار لغم أرضي بسيارتهم في الجرود. الحادث الذي مرّ خبراً عابراً في وسائل الاعلام، واقع يعاني منه العراسلة يومياً. «خرج الإرهابيون ولكن بعدنا عم نموت بالجملة»، يقول الأهالي. قبل انسحابهم، زرع إرهابيّو داعش والنصرة الالغام على امتداد الاراضي الزراعية في الجرود، ولم يستطع الجيش رغم محاولاته المتكررة مسحها كلياً، ما جعلها حائلاً أمام عودة المزارعين الى أرزاقهم واستصلاحها.
الطريق الى عرسال طويلة، ودخولها لا يزال يتطلّب المرور عبر أكثر من جاجز للجيش، فيما يتجمّع عشرات السوريين أمام مقرّ للأمن العام أنشئ أيضاً عند مدخلها. جبالها قاحلة غزتها المقالع العشوائية، وعلى جانبي مدخلها صور للرئيس سعد الحريري مبتسماً، مع عبارة: «الله معك كلنا معك»، وأخرى أكبر حجماً للمرشح يحيى شمص، بالإضافة إلى عشرات الاعلام الزرقاء التي ترفرف فوق أعمدة الانارة. علّقت الأخيرة عندما زار أمين عام تيار المستقبل احمد الحريري البلدة قبل أيام، لكنها افتقرت إلى الخرزة الزرقاء، ربما لأنه لم يعد يوجد في البلدة ما تحسد عليه، إلا أهلها.
بيوت بلا ألوان
يحتار زائر عرسال من أي باب يدخل الى مأساتها. البلدة المعروفة بصلابة صخرها، بيوتها «باطون» لا لون لها. قربها الى سوريا حوّل جرودها الى ملجأ للإرهابيين الذين نكّلوا بأهلها وقتلوا عدداً منهم، في فترة هي الاصعب في ذاكرة الاهالي. انتهت الازمة قبل سنة تقريباً، و«لكن البلدة لا تزال ساقطة من حسابات الدولة الانمائية والطبية والوظيفية وغيرها، فيما لم تصرف بعد كامل المساعدات للأهالي بدل الأضرار التي تعرضت لها أرزاقهم. صرفت لهم مبالغ ضئيلة بدل موسم الكرز، فيما التعويضات المتبقية لا تزال مجرد وعود».
كثيرة هي الازمات التي تتحدث عنها نائبة رئيس البلدية، ريما كرنبي، من «مشكلة الصرف الصحي وتلوث المياه، مروراً بمكب النفايات الذي يشتعل باستمرار مخلّفاً روائح كريهة وأمراضاً سرطانية، وصولاً الى المستوصف الوحيد الذي كانت قد أنشأته نازك الحريري وحوّله تيار المستقبل مؤخراً الى مكتب انتخابي، فيما الاهالي يتلقون الطبابة في المستوصفات التي أنشئت للنازحين، عدا عن وقف تهريب البضائع وتوقف العمل في مقالع الاحجار التي زيّنت منازل لبنان على اختلاف مناطقه». تشكو سوق عرسال من منافسة الحجر المصري والاردني، في وقت لا يزال فيه الحجر العرسالي ممنوعاً خارج عرسال. والى كل ما تقدم تشكو كرنبي من «مشكلة جديدة باتت تواجه شباب البلدة وشاباتها، وهي آفة المخدرات التي انتقل مصنّعوها بمعداتهم من سوريا الى عرسال».
كل هذه المشاكل «تفوق امكانيات البلدية التي لا يمكنها تأمين خدمات الحد الادنى للمواطن»، حسب ما يقول رئيس البلدية باسيل الحجيري، مطالباً المسؤولين بـ«تنظيف الجرود من الالغام بدل أن ينظفها العرسالي بدمه، فيسقط المزيد من الضحايا يومياً».
لا يختلف ما يقوله المسؤولون في البلدية عمّا يكرّره الأهالي. «ما في ضيم إلا وأصابها، ولو كان لعرسال أم لبكت عليها»، تقول أم أنور شاكية حالها وحال أبناء بلدتها جراء ضياع موسمهم الزراعي. قطع المسلحون عشرات الدونمات من بساتين الكرز واللوز واستخدموها حطباً للتدفئة، ودملوا (دفنوا) قرابة 40 منزلاً بالأتربة على سبيل التمويه، وحوّلوا «البئر العربية» التي تتّسع لقرابة 10 صهاريج مياه في جوفها الى مخبأ. ولما كان الموسم الزراعي على الابواب، يطالب الاهالي الدولة بإنصافهم والتعويض عليهم ومساعدتهم للعودة الى زراعة أرضهم.
انظروا إلينا أو ادفنونا
خسرت أم أنور أحد أبنائها، وتخاف على ابنها الثاني من عودته الى الجرد للعناية بأرضه. تنتظر زيارة الرئيس سعد الحريري بلهفة «بس يجي بدي روح قلّو نحن بنحبك ودمنا إلك بس اطّلع (انظر إلى) بوضعنا». تستعيد أياماً كان موسم الزراعة فيها عامراً، كيف كانت تجني ثمار جهدها وعائلتها من خير الارض. «اطّلعوا فينا أو ادملونا (ادفنونا) وريحونا» هو النداء الذي تتشاركه مع الحاضرين من أقربائها وجيرانها.«نحن بنحب سعد الحريري، بس ما بيجوز من الله اللي عم يصير فينا. ليش ناسيينا»؟ وتتابع أخرى: «بدي شوفو لإشكيلو. ما في عنا أغلى منك، بس نظفلنا رزقنا. لا نشكو العطش ولا الجوع، بس امسحولنا هالجرود».
تتعهّد أم أنور كما الموجودون بألا تتوجه الى صناديق الاقتراع هذه المرة «صرلنا سنين بننتخب. وقت الانتخاب عيونهم وقلبهم إلنا، وبعد الانتخاب بخاطرك ومع السلامة. ابني وابنتي اشتغلوا مندوبين وقت الانتخاب، وحين احتجناهم ما حدا طلّع فينا».
الاستياء يبدو جلياً في صفوف العراسلة الممتعضين من غياب «المستقبل» إلا في موسم الانتخابات. يقول أحدهم إن زيارة أحمد الحريري لم تحمل مشاريع، بل «مجرد حكي انتخابي ووعود بكرا بيروح وبينساها وبينسانا»، ويضيف أن تيار المستقبل «مثله مثل غيره من الموجودين في السلطة، كلهم لم يخدموا عرسال».
هنا ينتقل الحديث إلى حزب الله، الذي كان العراسلة ينتظرون منه اختيار أحد أبناء البلدة وترشيحه على لائحته «لإزالة الحاجز بيننا وطيّ صفحة الماضي»، لكنه «اختار شخصاً قال يوماً إنه يريد تحرير عرسال». وعتب آخر متصل بالوظائف العامة: «منذ سنة خصّصت وزارة الزراعة 60 وظيفة لبعلبك الهرمل أعطيت لأبناء راس بعلبك ولم يحسب حساب البلدة التي كانت خارجة من أزمتها للتو».
3 مرشحين بأهواء مختلفة
انتخابياً، تنقسم عرسال بين ثلاثة مرشحين هم محمد فليطي (لائحة فايز شكر) وبكر الحجيري (المستقبل) وسميح عز الدين (الإنماء والتغيير للمستقلين). عز الدين هو الشيخ الذي كلّفه الرئيس تمام سلام بالتنسيق مع هيئة العلماء المسلمين، وكان قد طرح نفسه كرهينة لدى الارهابيين بدلاً من العسكريين المخطوفين، وهو الذي يردد أن معركته ليست في وجه المقاومة. قبل أن يستقر العدد على ثلاثة، كانت البلدة قد شهدت ترشيح سبعة من عائلة واحدة (الحجيري)، وهي العائلة ذاتها التي ينتمي اليها رئيس البلدية باسل الحجيري، ومنها أيضاً عيّن «المستقبل» ثلاثة من منسّقيه لفترات زمنية متتالية، ما خلّف اعتراضاً داخل مؤيدي التيار الأزرق ممن فضّلوا لو يتم التعاطي بطريقة مماثلة مع باقي العائلات.
الانتخابات «مرحلة عابرة» يأمل رئيس البلدية باسل الحجيري ألا تترك أثراً على علاقة عرسال مع محيطها. لـ«المستقبل» مؤيدوه، ولو أن البعض بدأ يرصد حالات اعتراض على التهميش قد تجد طريقاً الى صناديق الاقتراع، ما قد يوزّع أصوات الناخبين في اتجاهات مختلفة. غير أن الفترة الفاصلة عن موعد فتح صناديق الاقتراع كفيلة بمعالجة الاعتراضات، بدليل زيارة أحمد الحريري الاخيرة التي خلّفت أثراً طيباً لدى الاهالي. وهو أمر يخالفه الحجيري الذي يتوقع أن يعبّر الناس عن خياراتهم المختلفة، قائلاً «الناس حسمت أمرها بالتصويت لأكثر من جهة، والمشهد لغاية اليوم يعبّر عن توزع الاصوات على خيارات متعددة».
كذلك يحظى حزب الله بتأييد ملحوظ، ولا تستبعد مصادر قريبة منه أن ينال أكثر من 700 صوت. توقعات يصدّقها العراسلة على أساس أن الحزب لم يسئ الى الأهالي، وله شهداء سقطوا خلال حرب تحرير الجرود، فضلاً عن المستقلين.
الحريري لأهل عرسال: لستم متروكين!
«حين أتيت في المرة الماضية إلى عرسال، أتيت برسالة واضحة للجميع: عرسال بلدة غير متروكة، صحيح أن لها رباً يحميها، لكن لها دولة مسؤولة عنها وعن كرامة ناسها». هذه الدولة حاول أهالي عرسال تقفي أثرها، بالأمس، وهم يستقبلون رئيس حكومتهم سعد الحريري، في زيارة انتخابية، حثهم فيها على التصويت للائحة المدعومة من تيار المستقبل، والتي تتمثل فيها عرسال ببكر الحجيري، في ظل انقسام داخل التيار الأزرق نفسه. وقال الحريري لمستقبليه: صحيح أنني موجود معكم في موسم انتخابات، وصحيح أن تيار المستقبل سمى بكر الحجيري، إلى جانب المرشح حسين الصلح (من بعلبك)، «لكن الأصح، ألا تشعر عرسال بالغبن بعد اليوم، وألا تشعر بعلبك بالغبن بعد اليوم، وهذا الأمر ممكن، إذا قررت عرسال أن تحدث فرقاً، وإذا قررت بعلبك أن تحدث فرقاً، والفرق يحصل في الانتخابات».