الاقتراع ممارسة تجسّد لحظة الذروة في الحياة الديمقراطيّة، إلا في مملكة الطوائف فهي ترسيخ للاستبداد الناعم. في لبنان، الانتخابات مسرحيّة تراجيكوميديّة. إنّها استلاب واغتراب… مهما تغيّرت القوانين، ورُمّمت الواجهات الخارجيّة التي تخفي خراباً عظيماً آتياً… وأيّاً كانت محاولات «القوى البديلة» (الزائفة منها والحقيقيّة) لإقناعنا وإقناع نفسها بإمكانية تغيير لا تملك مفاتيحه ولا أدواته. «البلاد ليست مهيأة بعد، ولا مُعَدّة لتَقَبّل…» الانتقال من «العقليّة الإقطاعيّة» إلى «الدولة الحديثة». هذا الكلام ليس من اليوم، لقد كتبه الرئيس فؤاد شهاب في بيان عزوفه الشهير عن الترشّح عام 1970. ما الذي تغيّر منذ نصف قرن تقريباً؟ في وطن العسل والبخور، يبدو «الناخب» كل شيء إلا «مواطناً» بالمعنى الديمقراطي، من شأنه أن يشارك في تحديد مصيره، واختيار مستقبله ومستقبل شعبه وبلاده. في هذا البلد، الإنسان محكوم بنيويّاً بكل أنواع القيود المسبقة التي تولد معه، وترافقه إلى حتفه، وتمنع عنه إمكانية أن يصبح مواطناً حرّاً: العائلة والقرية والمنطقة والمذهب والطائفة والدين، الجهل والفقر والتعصّب والخوف والانتهازيّة، والعقليّات البالية المتوارثة من أيّام سفربرلك، والتبعيات الزبائنية التي تبتزّ الضعفاء وترسّخ حكم السماسرة.

كل شيء في هذا البلد العجيب الغريب، صمّم لينزع عنك صفة المواطنة، ليجعلك محارباً في قبيلة، شاةً في قطيع، رهينة لمنظومة من الاعتبارات والإغراءات والابتزازات والعصبيّات. مهرّجاً بائساً يتخبّط في دونيّته أو في غروره. في هذا التوصيف ما قد يبدو جارحاً لـ «الشعب»، أو متعالياً عليه. في حين أنّه إدانة لعجزنا وانقيادنا الأعمى. في هذا التشاؤم ما قد يبدو ظالماً بحق القوى المطلبيّة التي لم تستَعِدْ بعد طريقها إلى القواعد الشعبية والنخب والرأي العام (حتى كاد يحجبها «ثوار» المنظمات غير الحكوميّة)، ولم يتخلّص بعضُها من طفوليّته ومن ترسبات الماضي التعيس. لكنّها الحقيقة المرّة في بلد ما زال قيد التأسيس، بلد يراوح مكانه منذ خمسة وسبعين عاماً على الأقل، هي عمر «الاستقلال». كلما أوشكنا على التحوّل من «رعايا» إلى «مواطنين»، تتضافر عوامل ذاتيّة وموضوعيّة، داخليّة وخارجيّة، لتعيدنا إلى الخانة الصفر. تتغيّر القوانين الانتخابيّة ويبقى الواقع البغيض نفسه. هل هي لعنة التاريخ؟ هل المشكلة في شخصيّة «اللبناني الشاطر»، المتشاطر على نفسه، والمتواطئ على بلده حتى النخاع؟ دع عنك الشعارات التي شنّفت آذاننا طوال الأسابيع الماضية. أسابيع ممضّة سرعان ما ستترك للكابوس اللبناني أن يعيد إنتاج نفسه، بمسميات ووجوه وتحالفات وشعارات مختلفة ربّما، لكن في خدمة النظام السرطانيّ عينه، وقد ازداد سوءاً على الأرجح. هذه القلعة الشيطانيّة يحرسها بصلابة تحالف المقاولين وقطّاع الطرق وتجار الهيكل. فهل نتوقّع حقّاً من بارونات النظام أن يتخلوا عن العجل الذهبي بطيب خاطر؟ أم أن هناك من لا يزال يراهن على «تغيير» يأتي من «الشارع»؟

قد يبدو ما سبق، مقدّمة للدعوة إلى مقاطعة الانتخابات النيابية اللبنانيّة، الأحد المقبل، و«ترك الموتى يدفنون موتاهم». وكان يمكن أن تكون كذلك فعلاً، لولا أن الحيادَ انسحابٌ لمصلحة الأسوأ بالدرجة الأولى، وانزلاق إلى المستنقع الآسن الذي نسعى إلى تفاديه. ولولا وجود عنصر آخر، أساسي، يغيّر المعادلة. إن صراعنا ضد التخلّف والتطرّف والظلم والاستغلال في هذه المنطقة من العالم، لا ينفصل عن صراعنا من أجل كرامتنا الوطنيّة وحقوقنا الحضاريّة والقوميّة. بل إن كل معارك الحريّة والتقدّم والعدالة والحقوق الفرديّة والجماعيّة، لا معنى لها في ظل الاستعمار والهيمنة. لا تزهر «حريّة» تحت جزمة محتل، ولا يقوم تنوير تحت ساطور قاطع رؤوس (والعقيدة التي أنجبته).

هناك في المشهد السياسي اللبناني حزب، يستطيع أن يمثّلنا على اختلاف عقائدنا وانتماءاتنا. وإن لم يكن ذلك من أولوياته يجب أن نطالبه به. حزب يقف في قلب النظام وعلى هامشه في آن واحد. حزب جهادي وحركة تحرر في آن واحد. حزب ديني جعلته حركة التاريخ في موقع الدفاع عن جميع الطوائف والأديان والعقائد التقدمية في العالم العربي. من حيث يدري، أو لم يكن يدري في البداية ربّما. نعم إنّ حزب الله هو كل هذا، أحياناً من دون أن يكون قد وضع نصب عينيه، منذ اللحظات الأولى، هذا الدور المركّب. لكن ثقافة الوقوف ضد الظلم والذلة تفضي إلى هذا الموقع، وتمهّد لهذا الدور. المقاومة في لبنان قدمت كل التضحيات، وحققت انتصارات أسطوريّة، ولمّا ترتكب خطأً أخلاقياً او سياسياً واحداً، وهي تعبُرُ بحنكة سياسيّة وترفّع أخلاقي فوق الفخاخ التي نصبت لها، متفادية حقول ألغام النظام الطائفي اللبناني. مجاهدوها حطموا كذبة التفوق الإسرائيلي. لأول مرة منذ النكبة، أنجب العرب حركة شعبية أخضعت الوحش الصهيوني. هذا الوحش الذي ترعرع في كنفه بعض القوى السياسية عندنا، فيما يرنو بعضُها الآخر إلى السجود عند قدميه قريباً في زمن صفقات العار. مجاهدو حزب الله أدّوا التحية لمريم العذراء في معلولا ـــ حين كان زعماء «الانعزالية» المسيحيّة (وإعلامهم) يرقصون بالرايات السود ـــ ودحروا الجراد الأسود عن حدودنا الشرقية، كاسرين حصار ائتلاف سياسي لبناني حمى التكفيريين ثم، بعد سحقهم في الجرود، حاول تشويه هذا الإنجاز تارة، أو سرقته تارة أخرى.

نعم حزب الله هو كل هذا. رغم محاولات الأبلسة وتشويه صورته وتحريف هويته، التي تعمل عليها آلة ضخمة، ومنظومة غنيّة ومتشعّبة من المؤسسات والجمعيّات، والسواد الأعظم من الإعلام المهيمن، عربيّاً وعالميّاً. لا عجب والحالة تلك أن نجد بين ضحايا البروباغندا الخبيثة، فئة من النخب العصريّة والتقدميّة الصادقة في رفضها التطرّف والأصوليّات والدولة التيوقراطيّة، والقائلة بحق الشعوب في تحديد مصيرها: تلك الفئة يجب أن نستعيدها من قلب التنين… لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن حزب الله تجاوز امتحانات عدّة، وأثبت أنّه ليس كما يصوّرونه، ويتمنّون له أن يكون كي تستقيم سرديتهم الاختزالية بين «الخير» و«الشر»! خير الاستعمار المتخفي بثياب «الليبراليّة» و«التقدم» و«العقلانية»، وشرّ «الإرهاب» الذي يحجب مقاومة تتحدّى الاستكبار وتدافع عن الحق والكرامة الوطنيّة. هذا ما يستحق عناء تأكيده في معركة انتخابية، بنيت على مخطط إضعاف حزب الله برلمانيّاً، وتغذت من خجل بعضهم أو خوف بعضهم الآخر من التحالف معه.

«حزب الله» يهديك إليه أعداؤه، ويحببونك به أيضاً. من الرجعيّات الخليجيّة إلى العدو الإسرائيلي المهووس بـ«سلاح المقاومة». من فارس سعيد وعلي الأمين إلى أفيخاي أدرعي. كل الذين يفضلونه أعزل وضعيفاً، باسم الديمقراطيّة ومن أجل بناء «دولة المؤسسات»، ونحن نعرف جيّداً ديمقراطيّتهم واحترامهم للمؤسسات! كل الذين يدعون إلى «النأي بالنفس» في قلب أتون مشتعل يحدد مصير شعوبنا، وهم عملاء صغار لدول الاستعمار وأنظمة الرجعيّة. القوى العظمى التي تستميت لمحاصرته، بالعقوبات المالية والضربات العسكريّة وتأليب الرأي العام عليه ترغيباً أو ترهيباً، من التهم البليدة (آخرها تسليح «البوليساريو»!) إلى حملات التشويه الممنهجة في الداخل باسم الدفاع عن «الدولة المدنيّة» و«السلم الأهلي» و«حقوق المرأة» و«الأقليات الجنسيّة». من تهمة «الأصولية»، إلى تهمة «الإرهاب» فموّال «الفرس المجوس»… والآن وجدت قوى الرجعيّة والاستعمار في المعركة الانتخابيّة فرصة عظمى لإضعاف حزب الله سياسيّاً. من حق المقاومة علينا في هذه المعركة الضاريّة أن نلتف حولها لحمايتها.

قد لا تبدو الأمور دائماً بهذه البساطة: فأنا علماني، يساري، أعطي صوتي لحزب الله. ولأنني كذلك، فأنا لا أقترع على أساس عصبيّة طائفيّة وعشائريّة. بل على أساس خيار وطني، وقناعة سياسيّة. وتشاء مصادفات «التركيبات» الانتخابيّة أن القضاء الذي أقترع فيه (جبيل) يخوض فيه مرشّح حزب الله الشيخ حسين زعيتر معركة صعبة. ويحتاج دعم الوطنيين لدخول الندوة البرلمانيّة. أنا مواطن عربي يساري، أقترع ضد الوهابيّة وضد التكفير، وضد الاستكبار الأميركي، وضد لصوص «الوطنيّة» والليبراليين الكذبة، و«عروبيي» آخر زمن، والعملاء المعلنين أو المقنّعين. أقترع ضد «علمانيي» الغرب الاستعماري، و«ثوار» الانحطاط الإسلاموي، وكل الطائفيين الذين يعطوننا دروساً في الوطنيّة. ضد شهود الزور على المذبحة، ضد الذين يطالبون أن يفتح باب «الحج» (الديني؟) إلى «إسرائيل». أقترع دفاعاً عن «سلاح المقاومة» الذي يحمي الكرامة العربيّة. سأمنح صوتي التفضيلي لمرشّح «شيعي» في جبيل، ضد كل الفدراليين والكونفدراليين ودعاة التقسيم، فأبطال المقاومة، رفعوا رأس كل لبناني، وكل عربي، واستشهدوا من أجل كل شبر في لبنان، ومن أجل فلسطين والعرب أجمعين. وأخيراً، حين أصوّت لحزب الله، أقترع ضد العدو الأعظم والشر المطلق الذي هو إسرائيل.

أعرف أن المجاهرة بحب حزب الله ليس «على الموضة»، بل يجعلك «داعماً للإرهاب» في نظر الديمقراطيات الاستعمارية. كما كان جان مولان «إرهابياً» في نظر الاحتلال النازي الفرنسا. كما كانت جميلة بوحيرد «إرهابيّة» في نظر الاحتلال الفرنسي للجزائر. أنا مدين للمقاومة بالكثير، وتلك هي المناسبة كي أردّ للمجاهدين بعضاً من فضلهم، مع أنّهم لم يمنّنوا أحداً، ولم يطالبوا أحداً بشيء! على طريقة «ناشطي» هذا الزمان الافتراضي، #حزب_الله_يمثّلني، رغم كل التناقضات الظاهريّة. هذا لا يعني أنني، كصحافي وكمواطن، لن أكون متطلّباً من هذا الحزب مستقبلاً، و لن أكون نقديّاً حين تدعو الحاجة، في قضايا اجتماعيّة واقتصاديّة وثقافيّة عدّة. فالنضال مستمرّ، من أجل العدالة الاجتماعيّة والديمقراطيّة واللاطائفيّة ودولة المواطن. وبكلّ حب، سأواكب نموّ هذا الجسد الحيّ، وتحوّله التدريجي كي يحتضن كل لبنان. وسأصفّق للنائب نواف الموسوي كلّما «لولح» بالكوفيّة، وهو واقف في قلب الحشود الشعبيّة التي لا تمثّل بالضرورة «بيئته الأولى».

منذ الساعات الأولى صباح الأحد، سأتوجّه إلى القرية الصغيرة التي أنحدر منها في «بلاد جبيل». إنّها فرصتي كي أعطي لهذه الانتخابات معنىً ديمقراطيّاً، لا مافيويّاً ولا عشائريّاً ولا ارتزاقيّاً ولا زبائنيّاً ولا طائفيّاً. أمثاليّ أنا؟ ومنذ متى كانت المثاليّة تهمة؟ أليس الحالمون بدولة حديثة عادلة لكل أبنائها، وبنظام ديمقراطي لاطائفي، مثاليين أيضاً؟ لنلتقِ إذاً، نحن المثاليين، حول صندوقة الاقتراع. فهنا نعيش مثُلَنا وقناعاتِنا. هنا نحمي المقاومة ونبني المستقبل. إذا كانت معركة تغيير النظام الطائفي لم تحن بعد، فإن معركة حماية المقاومة راهنة وملحّة أكثر من أي وقت مضى

المصدر: الاخبار - بيار ابي صعب