مع صدور عدد «الأخبار» اليوم، تكون النتائج النهائية للانتخابات النيابية قد صدرت. ومعها تفتح البلاد صفحة جديدة من الحياة السياسية القائمة على تحالفات مختلفة من حيث الوزن، وعلى معارك تواصل ما كان قائما قبل السادس من ايار.
وبرغم عادة الانكار التي تعوّد عليها السياسيون اللبنانيون، فان ملامح المشهد النيابي تقود الى نتائج اولية يمكن حصرها بالآتي:
اولا: تلقى الرئيس سعد الحريري (وتيار المستقبل) الصفعة الاكبر في تاريخه. ولم يعد بمقدوره الحديث عن احتكار التمثيل السني في البلاد واحتكار تمثيل المدن الكبيرة، ولا عن قيادة الفريق السياسي المنتمي الى المحور الاميركي ـــ السعودي في لبنان. ما خسره الحريري من العرقوب الى صيدا وجبل لبنان وبيروت وطرابلس وصولا الى زحلة والبقاع الغربي، لن تعوضه نتائج عكار التي قامت على ودائع غازي كنعان.
شكلت خسارة الحريري العلامة الفارقة في هذه الانتخابات التي ستكون لها تداعياتها على معركة تأليف الحكومة الجديدة، خصوصا ان من فازوا أمامه هم من الاقطاب البارزين مناطقياً ووطنياً، من اسامة سعد وعبد الرحيم مراد الى فيصل كرامي وصولا الى نجيب ميقاتي. كما هي الحال مع خسارته المقاعد غير السنية معه.
وبالتالي، سيكون الحريري اول المطالبين بمراجعة شاملة. والى ان تحصل، فان التعبئة الطائفية والمذهبية التي قادها تياره خلال اليومين الماضيين، لن تنفع في قلب الحقائق. وما عليه سوى الاقرار بالنتائج والتصرف على اساس ان صورة لبنان باتت تختلف كثيرا عما سبق الاحد الكبير.
ثانيا: تعرض التيار الوطني الحر، ومن خلفه الرئيس ميشال عون، الى انتكاسة جدية. فهو لم يعزز وجوده شمالا كما يفترض، بل فاز عليه خصومه التقليديون او المستجدون، من القوات اللبنانية الى تيار المردة. وهو ما برز ايضا في زحلة والبقاع الغربي حيث لن يكون في مقدوره ادعاء ان فوز ايلي الفرزلي من صنع يديه، وما ثبته في الشوف وعاليه لا يغيّر من واقعه شيئاً، بينما انحسر تمثيله النيابي نحو كتلة يتمثل فيها الحلفاء بصورة كبيرة. وهؤلاء، كما تقول لنا ابجدية السياسة اللبنانية، لن يطيلوا الاقامة في هذا المركب.
وجاء تراجع التيار الوطني الحر لمصلحة تقدم كبير ولافت للقوات اللبنانية وتعزز وضعية تيار المردة والحزب السوري القومي بين المسيحيين، ليفرض معادلة جديدة، تقول ان التيار لم يعد يملك النفوذ الاستثنائي، واذا ما تم حسم القوة الفائضة عن كون العماد عون هو رئيس الجمهورية، فان التيار صار موازيا للآخرين، وغير قادر على ادعاء صفة «الممثل القوي».
واذا كان التيار مقبلاً على ورشة نقاش داخلية، قد تنتهي الى خروج او اخراج كوادر اضافية على خلفية الاخطاء الكبيرة في التحالفات او الترشيحات والصراعات الحزبية، فان ما جرى في جزين وكسروان سيفتح الباب من جديد امام الصراع على زعامة التيار، ولو كان رئيسه الحالي جبران باسيل يتمتع بقوة كبيرة وبتأييد الرئيس عون. واذا تصرف التيار، وباسيل على وجه التحديد، بأنه منتصر في هذه المعركة، فهذا يعني اننا امام مشكلة كبيرة. وسيكون على التيار مواجهة وقائع لا تطابق تصوراته السابقة عن مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية. لان حق الفيتو الذين كان بيده، بفعل قوته من جهة، وبفعل تبني حزب الله له من جهة ثانية، سقط او صار الاخرون يملكون مثله.
ثالثا: منيت بقايا 14 اذار، من الشخصيات المسيحية والاحزاب الصغيرة، من الجنوب الى الجبل والشمال وبيروت والبقاع بخسارة شاملة، بالضربة القاضية. وأهم خلاصة ان القوى البارزة في فريق 14 اذار تخلت عن هؤلاء، وان الدعم الخارجي لهم لم يؤت الثمار المطلوبة.
رابعا: حققت القوات اللبنانية انتصارا كبيرا، فهي تقترب من كتلة صافية من 15 مقعدا، وحصلت على تمثيل واضح في 13 دائرة على الاقل. وهو تمثيل سيترسخ اكثر في الفترة المقبلة، مع قدرة على حصد نتائج امرين في الوقت نفسه: الخطاب الطائفي الذي استخدمه خصوم القوات وعادت نتيجته اليها، وفكرة المصالحة مع التيار الوطني الحر التي ادخلت التيار الى تحالفات في مناطق كانت مقفلة في وجهها، مثل البقاع الشمالي وكسروان وجبيل وعكار.
وسيكون من الصعب على التيار الوطني الحر، كما على الرئيس الحريري، تجاوز القوات عند تشكيل اي حكومة، كما صار بمقدور القوات صياغة تحالفات تتيح لها النفاذ الى اماكن جديدة في البلاد. ولكن الامر، يتطلب منها خطابا وسلوكا سياسيين مختلفين، وهو امر رهن الايام.
خامسا: تجاوز وليد جنبلاط قطوع تهديد زعامته. فهو اظهر ثباتا وتفوقا درزيا ساحقا، بحيث لم يقدر خصومه التقليديون ولا الجدد على تقديم البديل المؤثر. كما انه حافظ على نفوذه خارج طائفته، فأبقى على حصته من السنة والمسيحيين. وهو نجح في مواجهة التعبئة التي قامت ضده من التيار الوطني الحر على خلفية طائفية، وأتيح له تعزيز تحالفات مهمة مع الرئيس نبيه بري كما مع حزب الله، ما سيكون له تأثيره الكبير على تحالفات المرحلة المقبلة.
خامسا: انهى خصوم الحريري من القيادات السنية فصلا من التهميش والاقصاء، ونجح هؤلاء في تثبيت مواقعهم كأصحاب تمثيل حقيقي لا يستند الى تحالفات مبهمة، ولا الى رافعات كما اتهموا سابقا. وما جرى في مختلف الدوائر التي تنافس فيها هؤلاء مع الحريري، اظهر ان بمقدورهم التقدم خطوات اكبر في المرحلة المقبلة، حتى ولو ظل الحريري المرشح الاوفر حظا لرئاسة الحكومة. وصار بمقدورهم بناء قوة جدية قادرة على جذب حلفاء من مواقع سياسية وطائفية اخرى.
سادسا واخيرا، حسم ثنائي حركة امل وحزب الله النقاش مرة جديدة حول حقيقة تمثيلهما الاشمل على الصعيد الشيعي، وما حصل عليه خصومهما في دوائر الجنوب والبقاع وجبل لبنان، اظهر انه لا يمكن الحديث عن معارضة جدية، عدا عن كون التعبئة التي رافقت الاسابيع الاخيرة، كشفت عن استمرار تأثير زعامة الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصرالله على الجمهور، بخلاف حال الآخرين من الخصوم. كما اظهر طرفا الثنائي قدرة فائقة على تنظيم الصفوف بما يمنع تعرضهما لاي انتكاسة، واكثر من ذلك، اظهر قدرتهما على الوفاء بالتزاماتهما ازاء حلفائهما من بقية القوى والطوائف، حتى انه يمكن لشخصيات وقوى 8 اذار، من الفائزين او الخاسرين، التغني بالدعم الحقيقي الذي وفره الثنائي الشيعي في كل الدوائر. كما شكلت نسبة التصويت في بيروت وحجم الاصوات التي حصدها مرشحا الثنائي، اشارة الى قوتهما في العاصمة، بخلاف ادعاء الاخرين، ولا سيما تيار المستقبل.
ما حصل بالامس، شكل انعطافة في ادارة الحياة السياسية في لبنان. صحيح ان تغييرا على صعيد التمثيل السياسي لم يحصل بصورة كبيرة، لكن التوازنات تبدلت بطريقة تتيح توقع نمط اخر من المواجهات المقبلة، وهو ما سنراه واضحا في طريقة تأليف الحكومة وكيفية ادارة الملفات الحياتية للناس.