تغيّر تفكير «حزب الله» خلال الأعوام الثلاثة الماضية. ولكنّ هذا التفكير كان يحدث بتراكم ثقيل، وتجسيده على أرض الواقع سيكون بطيئاً، لكنه سيكون حاداً في نتائجه.
إصرار «حزب الله» على نقل لبنان من قانون الإنتخاب الأكثري الى النسبي، لم يكن أبنَ ساعته عام 2017. لقد اختمرت الفكرة داخل بيئاته المقرّرة، ابتداءً من العام الماضي.
وللنسبية داخل الحزب رؤية خاصة ورهان استراتيجي عليها، فهي وفق تقديره ستشكل «المفتاح الذهبي» الذي من خلاله سينطلق مسار تحقيق «إنقلاب سياسي تغييري أبيض» داخل الواقع الراهن للحياة السياسية في لبنان. وهو واقع بات يحاصر الحزب ويضعه في صورة أنه جزءٌ منه، وشريك في متاهة الإستمرار في إنتاج مستنقعه الآسن.
داخل كواليس الحزب، أو بكلام أدقّ، داخل «الحزب العميق» (على وزن الدولة العميقة) يمكن سماع تحليل من نوع أخر للظروف التي سمحت بإنتاج قانون النسبية في البلد.
وبطل هذه الظروف هنا، ليس العهد اساساً، ولا الرغبات الطيّبة بضرورة مغادرة قانون الإنتخاب الأكثري، بل بطلها تمثّل بتوافر»لحظة موضوعية داخلية وخارجية» أتاحت فرصة تجاوز حقبة نظام القانون الأكثري المسؤول عن تجديد إنتاج الواقع السياسي الآسن، الى حقبة القانون النسبي الذي يمهّد لفتح باب التغيير السياسي في لبنان.
والظروف الموضوعية الخارجية التي يقصدها تحليل حزب الله، هي إنكفاءُ دولٍ عن الساحة اللبنانية كانت تساند بقاء قانون الأكثري متحكّماً بمعايير إنتاج السلطة السياسية في لبنان. وهذا الإنكفاء كانت له أسباب مركبة، ذاتية وإقليمية، وذات صلة أيضاً بتغيّر نظرة هذه الدول الى أهمّية موقع لبنان في أجندة توجّهاتها الخارجية.
وفي نظر الحزب، إنّ انكفاء هؤلاء الإقليميين لو لم يحصل لكانت هناك صعوبة في إمرار قانون النسبية، وكانت معارضتُهم له، التي أبدوها بعد إقراره، تحت مبرّر أنّ النسبية ستخدم توسّع نفوذ «الحزب» السياسي داخل لبنان وتكون لها أدواتُ تعطيل أقوى. وتذكّر مطالعة الحزب في هذا المجال، بأنّ الإنتخابات النيابية الأخيرة ظلّت مهدَّدة بالتأجيل حتى وقت قريب سبق إجراؤها، وكان التعليل لذلك هو وجود عدم رضى لدى جهات داخلية وخارجية فاعلة على القانون النسبي.
ولم يكن إصرارُ الحزب في تلك الفترة على رفض تغيير حرف واحد في القانون، أو تأجيل الانتخابات ليوم واحد، من دون خلفيّاتٍ عميقة لديه، ذلك أنه رأى وجوبَ حماية إجراء الإنتخابات بالقانون النسبي على رغم شوائبه، وفي موعدها مهما كان الثمن السياسي لذلك.
عام 1992 شارك الحزب للمرة الأولى في الإنتخابات النيابية وفاز بـ 12 مقعداً. وبخطوته هذه وضع قدمه في أوّل الطريق الى المشارَكة في السلطة.
ولكنّ رؤيته آنذاك لهذه الخطوة اقتصرت على توجيه رسالة الىى المجتمع الدولي تفيد أنّ المقاومة في لبنان لها تمثيل سياسي داخل المجلس النيابي وليست مجرد حالة عسكرية وامتداداً لأجندة إقليمية. وبعد إنتخابات 2018 التي تتميّز بأنها جرت على أساس القانون النسبي ذي التفاعلات السياسية التغيّرية المستقبلية، يضع الحزب قدمَه على مساحة جديدة على طريق إنخراطه في الحياة السياسية اللبنانية، ومفادها أنه «قوة تغييرية وإصلاحية داخل الواقع السياسي اللبناني».
وفي نقاش الحزب حول مهمّته اللبنانية الجديدة، يوجد كمٌّ غير قليل من التشكيك بإمكانية نجاحه بالتحوّل من حزب يدوّر الزوايا ويدفع الأثمان السياسية الداخلية، لإبرام تسويات مع الحلفاء والخصوم لحماية سلاحه، الى حزب يخوض غمار مواجهات داخلية بغية التغيير السياسي نحو الإصلاح.
ولكنّ هذا النقاش يقرّ في المقابل، بأنّ بقاء الحزب داخل صمغ الإهتراء السياسي والإقتصادي الراهن للواقع اللبناني، سيؤدّي الى خسائر كوارثية عليه، بعض أمثلتها وليس كلها، إمكانية أن يتمّ دفعه بفعل مخططات خارجية الى جعل مشهده في لبنان مشابهاً لمشهد حركة «حماس» في قطاع غزة التي يتمّ تحميلُها مسؤولية الإنهيار السياسي والإجتماعي والإقتصادي الذي يسوده.
وثمّة ثلاث نقاط يمكن إعتبارُها ملامح ذات دلالات، سيجسّد الحزب من خلالها استراتيجيّته الداخلية الجديدة في مرحلة ما بعد الانتخابات:
ـ الأولى، خوضُ معركة تطوير قانون الإنتخاب النسبي، وذلك تحت سقف عدم العودة الى معايير القانون الانتخابي الأكثري، بل تعزيز «مسنوب معيار إعتماد النسبية» في الإصلاحات التي سيتمّ إدخالُها عليه. وتوجُّه الحزب هذا، ليس ترفاً ديموقراطياً، بمقدار ما يخدم فكرة استراتيجية لديه، تفيد أنّ «النسبية» هي الباب الوحيد الذي يمكنه من خوض معركة هادئة وطويلة النفس لبلوع هدف إدخال إصلاحات على نظام الدولة في لبنان، المتّسم بأنه نظام على رغم ظاهره الهش، بيد أنه شديد القوة نتيجة تشابك المصالح ضمنه بين بُنى إجتماعيّة وإقتصادية وسياسية متعدّدة.
أضف الى ذلك، أنه من خلال تجربته في السلطة وضمن اصطفافي 14 و8 آذار، بات الحزبُ على إقتناعٍ بأنّ مصلحته الاستراتيجية تقتضي تغيير أدائه واهدافه الداخلية، إنطلاقاً من اسباب جوهرية عدة، منها أنّ أزمتي النظام السياسي وتحكّم منظومة الفساد، أصبحت لهما مردودات سلبية مباشرة على مشروعه وصورته داخل بيئته الاجتماعية. كما أنّ توازنات الساحة السياسية اللبنانية ضمن نمطيّتها الحالية، تؤشر الى أنها ستُبقي الحزبَ داخل سجن توازناتها المستحيلة، وعليه فإنّ الوقت حان لأن يتصدّر الحزبُ داخلياً مساراً تغييرياً إصلاحياً هادئاً. والمفتاح الذهبي لفتح باب البدء بهذا المسار في اتّجاه تحقيق كل هذه التحوّلات السياسية الداخلية هو قانون الإنتخاب النسبي، والرهان على التفاعلات السياسية الداخلية التي سيُنتجها مستقبلاً.
ـ الثانية: على عكس سلوكه الماضي العازف عن المطالبة بحصته في كعكعة الحكومات وإدارات الدولة، فإنه في مناسبة تشكيل الحكومة العتيدة، سيطالب لنفسه بحقائب وزانة تعكس تمثيلَه النيابي وتمكّنه من إمتلاك صلاحيات تنفيذية لمحاربة الفساد والهدر.
ـ الثالثة، هي تكشف «كلمة السر» داخل المرحلة المقبلة في عهد الرئيس عون، ومفادها بحسب المتداول في كواليس الحزب، أنه يوجد توافق بينه وبين رئيسي الجمهورية ومجلس النواب على تدشين مرحلة إصلاح سياسي وتشريعي تُفضي الى إصلاحات والبدء بمكافحة جدّية للفساد والهدر منذ لحظة ولادة الحكومة العتيدة.