ربّما هي المرّة الأولى، والأخيرة، التي يكون فيها ترميم العلاقة بين وليد جنبلاط وسعد الحريري أمراً غير قابل للتطبيق. «الخبز والملح» يبقى، لكنّ التباين يكبر في السياسة.
يخاف جنبلاط على الطائف. يراه يترنّح بين الحريري وميشال عون، «الرئيس المسيحي القوي». «شو صاير فيك يا سعد الحريري؟ شو؟»، صرخ جنبلاط في بعقلين قبل أيام من الانتخابات. القلق مبرّر من وجهة نظره. في سنوات ما بعد «حرب الجبل»، استعاد جنبلاط بدعمٍ من سوريا وحلفائها اللبنانيين والفلسطينيين، مجداً خسره الدروز في حرب 1860. قَرََّشَ وريث كمال جنبلاط الانتصار العسكري امتيازات سياسية في الطائف. بعد الطائف، بقي جنبلاط رئيساً رابعاً إلى جانب «الترويكا»، ومعها بيضة قبّان لتسوية ما بعد الحرب. وضعية جعلته محكوماً بعلاقة متأرجحة، لكن متينة مع رفيق الحريري. ليس سهلاً، في عزّ توريث النائب تيمور جنبلاط، أن يرى وليد جنبلاط ثمرة حياته السياسية (تنفيذ الطائف)، تُسقطها ذابلةً، شمس عون… وحليفه الجديد، سعد الحريري.
بعد اغتيال الحريري، حمل جنبلاط على كتفيه قيادة 14 آذار، موعوداً من الأميركيين والفرنسيين بهزيمة سوريا في لبنان. وقتذاك، احتاج الحريري الابن إلى «دليل» سياسي، وليس إلى قائد يسير خلفه، فكان هو «الأب الروحي».
قبل أيام من 5 أيار 2008، كان جنبلاط واثقاً من «النصر»، تبعه الحريري على غير هدىً. عندما أيقن جنبلاط الهزيمة، سارع للاستسلام. شعر الحريري بأنه تُرك وحيداً، فيما ظنّ جنبلاط أنه بتراجعه ينقذ نفسه وحليفه معاً.
هي الانتكاسة الأولى. ترسّخ الشكّ واهتزت العلاقة، لكنها لم تنكسر. واحد شعر بالخداع عندما قيل له إن خمسة آلاف مقاتل «سنّي» سيواجهون حزب الله في بيروت، فاندفع بالتصعيد حتى بلغ التهديد «جبله»، وآخر أحسّ بأنه أُدخل في حربٍ خاسرة بلا ذنب. لاحقاً، فُجع الحريري. جنبلاط أعلن «انعطافة 2 آب 2009»، بعدما اشتمّ رائحة «السين ـ سين» تطبخ على نارٍ هادئة. ردّ الحريري الصاع صاعين وفتح خطوط الاتصال مع السوريين من دون علم جنبلاط. عاد جنبلاط واكتشف لاحقاً بالصدفة، من ورقة كانت في حوزة اللواء الراحل وسام الحسن عن مسار من الاتصالات، انتهى بزيارة الحريري لدمشق ونومه في سرير الرئيس السوري بشار الأسد، في كانون الأول 2009.
تراكمت الـ«لا ثقة»، حتى أتت «إقالة» حكومة الحريري خلال لقائه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما. بعد أخذٍ وردّ، سار جنبلاط بنجيب ميقاتي رئيساً للحكومة. هو ظنّ أنه يحمي الحريري إلى جانب ميقاتي وميشال سليمان. والحريري شعر بالخديعة الكبرى.
ساد «الهدوء النسبي» سنوات غياب الحريري عن لبنان. كان الحريري يراجع مساره السياسي، محمّلاً الكثير من الهفوات لجنبلاط ورئيس حزب القوات سمير جعجع، أبرزها علاقته السيئة بميشال عون. عندما سار الحريري بترشيح سليمان فرنجية، جاراه جنبلاط من دون تردّد، وعندما قرّر انتخاب عون، جاراه جنبلاط أيضاً ولو على مضض. لكن مسار الفرقة صار أوضح: عون يصارع جنبلاط ونبيه بري، بينما قرر الحريري أن يتحالف مع عون. أتت لحظة الاحتجاز في الرياض، ولو أن الحريري حمّل وائل أبو فاعور جزءاً من مسؤولية تردّي علاقته بثامر السبهان، إلّا أن جنبلاط «عمل بأصله» حين رفض العرض السعودي بإزاحة سعد لحساب بهاء الحريري، وساهم مع بري وعون وحزب الله في استعادة رئيس الحكومة المختطف.
قبل أيام، زار الوزير غطّاس خوري منزل جنبلاط، ناقلاً رسالة يبدي فيها الحريري رغبة في «ترميم» العلاقة. ردّ أبو فاعور الزيارة، مستطلعاً، فجاءه التأكيد. ومع ذلك، تأجلت زيارة جنبلاط لبيت الوسط مرتين أو ثلاثاً، حتى حصلت أمس.
عاد الودّ بين الحريري وجنبلاط، لكنّ الابتعاد واقع. فالحريري مستمرٌّ بحلفه مع عون وجبران باسيل، على حساب الطائف، كما يرى جنبلاط، وهذا يهدّد «مكتسبات الدروز». فـ«الشيعة» مهما اختلفت تركيبة النظام ومعادلاته، يستطيعون حماية امتيازاتهم وتطويرها، والمسيحيون مع عون يحاولون العودة إلى امتيازات ما قبل الحرب. وحدهما جنبلاط والحريري يخسران ما حصّلاه في الطائف. أزمة أخرى تجعل جنبلاط والحريري في موقعين متباعدين، باسيل يبدو مصرّاً على توزير النائب طلال أرسلان نكاية بجنبلاط، وجنبلاط لن يتراجع عن مطالبته بالمقاعد الوزارية الدرزية الثلاثة. أين سيصطفّ الحريري؟