«حق الحاج عماد مغنية، الشهيد، على هذه الامة أن تعرفه، من أجلها، لا من اجله، وحقه على الامة ان تنصفه، من أجلها، لا من اجله، وحقه على الامة ان تستلهم روحه، ودرسه، وجهاده، من أجلها، لا من أجله».
السيد حسن نصرالله يرثي الشهيد عماد مغنية
«أخذنا الأمر بعض الوقت، لكننا وصلنا سريعا إلى الاستنتاج أن براعة الحاج رضوان في التكتيك العسكري هي على قدم المساواة مع الأفضل في التاريخ»
روبرت بير («القتل الكامل» ص: 4)
حين وصف فرانز فانون، المناضل الاممي، تشي غيفارا بـ«الرمز العالمي للإمكانيات الهائلة لإنسان واحد»(ii) لم يكن ذلك فقط لأن غيفارا مثّل حينها النموذج الأرقى لنظريته عن الإنسان، التي تضمنها كتابه الفذ المنشور قبلها بسنين: «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء». بل، كان ذلك أيضا، لأنه رأى فيه التجسيد الأمثل والأرقى تاريخيا لمشروع تطور الإنسان المقاوم الذي سيشكل، في تطوره، الحل الحاسم لمعضلة العالم والإنسانية. لم يكن فانون هنا يبني على رؤية الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه لتطور «الإنسان الخارق»، فهذا ليس أكثر من مجرد تشابه في الشكل. كان فانون يستكمل في نظريته ما بدأه ايميه سيزير في «خطاب حول الاستعمار» و«خطاب حول الزنوجة»، وسعيه لإدراك آليات إعادة اختراع وإعادة خلق المستعمَر كإنسان حر بعد أن مسخه الاستعمار لهمجي مستعبَد، مستعمَر جسدا وعقلا وروحا. فلم يكن الهدف تحرير المستعبَد أو المستعمَر من نير الاستعمار العسكري فقط. بل، ولكونه كله، بذاته وبذاتيته وبوعيه بنفسه وبالمستعمِر وبالعالم، نتاج للحالة الاستعمارية، كان ينبغي محوه كليا في سياق كفاحي عنيف ودام من مقاومة الاستعمار وإعادة خلقه على شكل إنسان جديد وذاتية جديدة ووعي جديد بالذات وبالآخر وبالعالم. لا ينتهي الاستعمار، كما رآه وفهمه فانون، بطرد جنودهم من عالمنا الجنوبي، فذلك تحرير للجغرافيا فقط. المهمة الصعبة والشاقة جدا هي في تحرير الإنسان وتحرير العقل وتحرير الروح.
لم يكن تشي غيفارا حينها النموذج الحي والحقيقي الممكن لهذا الإنسان فقط، كما تخيله سيزير وفانون فعلا، بل وأصبح لاحقا المنظر الأهم لفكرة «الإنسان الجديد» الذي سيتجاوز بوعيه وطموحه حدود قيود واقع الإمبراطورية إلى عالم آخر في المستقبل. تقرأ تشي، «الإنسان والاشتراكية في كوبا»(iii)، فلا تتخيله مهموما بزوال الاستعمار وتحرر شعوب الجنوب. فهذه قناعة لم تراوده فيها ذرة شك. كان غيفارا مهموما بما هو أبعد كثيرا من ذلك الهدف القصير الأمد. كان مشغولا بمحاولة تخيل عالم آخر وإنسان آخر وعصر آخر وطريقة حياة أخرى، ولم يكن عالم وإنسان ما بعد عصر الإمبراطورية والاستعمار إلا محطة أولى في هذا المشروع العظيم. كان مشغولا بتخيل عالم بلا استغلال ولا اضطهاد وليس فقط بلا استعمار ولا استكبار. تقرأ تشي في «الإنسان والاشتراكية في كوبا» فيتبادر لذهنك مباشرة قَسَمُ غسان كنفاني ووعده الثوري: «لن أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي». تقرأ تشي فتتذكر عبارة أميلكار كابرال في «ترابط الصراعات»: «لا نريد (في بلدنا) أي نوع من الاستغلال، سواء من الرجل الأبيض أو الرجل الأسود»(iv). تقرأ غيفارا وكنفاني وكابرال فتسمع صدى صوت سيد المقاومة، الأمين حسن نصر الله، يتلو في الوثيقة السياسية لحزب الله: «سيبقى شعار «وحدة المستضعفين» أحد مرتكزات فكرنا السياسي في بناء فهمنا وعلاقاتنا ومواقفنا تجاه القضايا الدولية». ما يلي نموذجان لمقاومين لا يمثل كل منهما الخلاصة الأرقى للإنسان في زمنه فقط، بل وأيضا النموذج العالمي للإمكانيات الهائلة لإنسان واحد ــــــ فونجوين جياب وعماد مغنية.
على درب هوشي منه
«الفيتناميون في كل مكان. إن الوضع خطير جدا، وجنودنا مرتبكون. أشعر بالنهاية تقترب». كان هذا الإرسال قبل الأخير للجنرال كريستيان دو كاستري، قائد القوة الفرنسية في ديان بيان فو إلى مركز القيادة الفرنسية في هانوي. بعدها بقليل، جاء الإرسال الفرنسي الأخير من ديان بيان فو: «إنهم على الابواب. إنهم يجتاحون مواقعنا»(v). كان هذا في تمام الساعة الخامسة من مساء السابع من أيار 1954. بعدها بلحظات قليلة، اقتحم الثوار الفيتناميون أبواب الحصن الفرنسي الأخير كالإعصار. ومع تلك اللحظة العظيمة، انتهت وللأبد الحملة الإستعمارية الفرنسية في آسيا بعد أن دامت أكثر من قرن من الزمن. لكن كان على الفيتناميين، الذين حاربوا الفرنسيين أكثر من مئة عام ولم يصبهم اليأس ولا الوهن للحظة واحدة، وكذلك قاوموا احتلال الإمبراطورية اليابانية وهزموها، أن يتصدوا، لاحقا، للإمبراطورية الأعتى في التاريخ. ففي ربيع 1964، بدأت الحرب الأميركية على فيتنام وتجاوز عديد الجيش الأميركي في أغلب مراحلها نصف مليون جندي، مسلحين حتى الأسنان بأحدث وأعقد ما أنتجته مصانع السلاح وأكثرها كلفة. لكن بعدها بأحد عشر عاما فقط، في 30 نيسان 1975، سيحرر المقاومون الفيتناميون سايغون. اقتحموها أيضا كالإعصار. لم يفسحوا للأميركيين حتى مجالا صغيرا من الوقت لحمل بعض عملائهم معهم، ليكون احتفالهم بعدها بليلة واحدة فقط بعيد العمال العالمي، فيما النار تشتعل بالسفارة الأميركية، وفيما دبابات المقاومين تقتحم بوابات القصر الرئاسي الحديدية وتحطمها أمام أعين العالم، ذا رمزية تاريخية غير مسبوقة منذ مظاهرة العمال التاريخية في «هاي ماركت سكوير» في شيكاغو في 4 أيار 1866.(vi)
لا نعرف تفاصيل الإرسال الأميركي الأخير من فيتنام، لكن قصة السقوط، التي سيعتمدها الكثير من المؤرخين كبداية لأفول الإمبراطورية الأميركية، بدأت في الثلاثين من كانون الثاني/يناير 1968 مع حملة «تيت» الشهيرة التي بدأ التحضير لها مقدما بإنجاز «درب هوشي منه»، المثل الصارخ على انتصار روح الإنسان وعبقرية الإرادة الإنسانية. لم يبالغ بعض المؤرخين العسكريين على الإطلاق في وصفه بأنه أحد أعظم الإنجازات الهندسية العسكرية في القرن العشرين.
فهذه الشبكة الهائلة المعقدة المكونة من أكثر من 12 ألف كيلومتر من الأنفاق والطرق والمخازن والمستشفيات وأماكن الإقامة ومخازن السلاح والملاجئ المقامة تحت الأرض، والممتدة، عبر الغابات الكثيفة وعبر أكثر طرق آسيا وعورة، من فيتنام الشمالية إلى الجنوب مرورا بالحدود مع لاوس وكمبوديا لأكثر من ألف كيلومتر استخدمت لنقل الأسلحة والمقاتلين وتخزين العتاد وحماية المدنيين، كانت حاسمة جدا في انتصار الفيتناميين. ورغم أن الأميركيين استهدفوا هذه الشبكة باستمرار، وقصفوها بما يعادل 4 ملايين طن من المتفجرات(vii)، إلا أن إدراك الفيتناميين لأهميتها وإصرارهم على الانتصار جعلهم يخصصون ما بين 40 ألف إلى مئة ألف مقاوم للعمل بشكل يومي ودائم على صيانة الطريق الطويل باستمرار وضمان بقائها مفتوحة ما جعلها حاسمة في تجهيز وتنفيذ حملة «تيت» الهجومية التي شكلت بداية نهاية الوجود الأميركي في فيتنام وأسست لهزيمتهم المرة هناك.
ففي الثلاثين من كانون الثاني/يناير 1968 استخدم الفيتناميون هذا الدرب لنقل أكثر من ثمانين ألف مقاوم جنوبا سرا لمقاتلة الأميركيين في حملة تيت الهجومية. بدأت الحملة في الساعة الثانية صباحا بالهجوم على مقر السفارة الأميركية في سايغون. ومع شروق شمس صباح ذلك اليوم كان المقاومون قد ضربوا مئتي هدف في أكثر من مئة بلدة ومدينة في الجنوب خلال أقل من ساعتين ما أربك الأميركيين الذين احتاجوا لشهور لاستعادة توازنهم. ورغم أن بعض المعارك من تلك الليلة استمرت لأكثر من شهرين إلا أن كلَّ مَن درسَ تاريخ أميركا في فيتنام يعرف أن الحرب انتهت حقا مع شروق شمس ذلك اليوم. بعدها بسنتين سيخرج ريتشارد نيكسون، رئيس الإمبراطورية الأعتى في التاريخ، بخطاب الهزيمة متحسرا: «أميركا عملاق عاجز يرثى لحاله»(viii).
لكن قصة هذه المقاومة العظيمة، لمن لا يعرف، بدأت في شتاء 1944 بأربعة وثلاثين مقاوماً فقط، وكان كل سلاحهم: مسدسان دواران، ١٧ بندقية، ١٤ طبنجة قديمة جدا (طراز فلينتلوك)، ورشاش خفيف واحد، أغلبها من بقايا الحرب اليابانية الروسية عام 1905(ix). وحين أصدر أوامره بالبدء بالمقاومة المسلحة خلال شهر من لقائه مع رفاقه في تشرين الثاني/نوفمبر، لفت القائد الاسطوري هوشي منه نظر قائد جيشه، فو نجوين جياب، إلى الأهمية القصوى والحاسمة لنجاح العملية الأولى أولا، ثم أوجز المعنى الحقيقي للعمل المقاوم وحقيقة العنف الثوري، مؤكدا أهمية التخطيط لها والتركيز أساسا وأولا وأخيرا على تبعات العملية الدعائية وتأثيراتها على روح الشعب الفيتنامي أولا وعلى روح العدو ثانيا، لدرجة انه أوشك ان يطلق فعلا على تلك الوحدة اسم «الوحدة المسلحة للدعاية والتحرير». كان معنى العملية وتبعاتها النفسية والثقافية والمعنوية عنده، على الفيتناميين وعلى أعدائهم الفرنسيين، أكبر بكثير من أي عدد ممكن من القتلى الفرنسيين، ولهذا ما كان يجب لها أن تفشل.
كان هوشي منه، أيضا، يعلم جيدا المعنى الحقيقي (والضروري جدا جدا جدا) لأن يرى المستعمَر المستعمِر ينزف دما ويموت أمام عينيه كباقي البشر. هكذا فقط يمكن تحطيم صورته المزورة وتفكيك استثنائيته المزعومة وإبطال مفاعيل تفوقه الكاذب منذ البداية في عقول المقاومين، وحتى في عقول الناس العاديين الذين يشكلون حاضنة المقاومة. وهكذا، وهكذا فقط، في سياق ثوري عنيف ودام، آمن هوشي منه، انه يمكن فقط إعادة صهر روح وعقل وذاتية المستعمَر وخلق إنسان حر. بعدها، ترك هوشي منه التفاصيل العسكرية للقائد الأسطوري جياب مختتما توجيهاته لرفاقه: «حافظوا على السرية الشديدة. كونوا سريعين جدا وفاعلين جدا. الآن في الشرق. الآن في الغرب. عليكم أن تصلوا دائما بشكل مفاجئ وغير متوقع، وعليكم دائما أن تغادروا من دون أن يلاحظكم أحد»(x). كان هوشي منه، هنا، طبعا، يقتبس صن تسو في «فنون الحرب». لكن اللمسة الفارقة، وربما الأهم، في التجهيز للعملية الاولى كانت لأستاذ التاريخ السابق، الذي أصبح القائد العسكري الأول لجيش التحرير الشعبي. فقبل أداء القسم الشهير للمقاومة الفيتنامية، أطلق جياب على الوحدة الأولى من الجيش الشعبي اسم «تران هونغ داو»، تيمنا بأحد أعظم الأبطال في التاريخ الفيتنامي. فـ«تران هونغ داو» هو البطل الأسطوري الذي قاد مقاومة ثلاث غزوات منغولية لفيتنام وانتصر عليها في القرن الثالث عشر، واستعاده جياب من التاريخ البعيد ليعطي هوية وطنية/قومية للمقاومة وليبشر بالنصر المحتوم، وأيضا ليعمل منذ البداية على توطين المقاومة عبر استكشاف وتسخير الإمكانيات الثورية الهائلة للتاريخ والثقافة الفيتناميين. لهذا، فبرغم قراءة جياب لكل ما كتبه ماو تسي تونغ، المرجع الأهم لحرب العصابات على الإطلاق، إلا أنه لم يقتبس رائد حرب التحرير الشعبية في كل ما كتب إلا قليلا جدا. كانت الرموز الوطنية الفيتنامية والدعاية والاستثمار المعنوي الهائل للانتصارات العسكرية بهدف إعادة خلق وتشكيل روح الشعب الفيتنامي في كل مرحلة لضمان استمرار المقاومة محط اهتمامه الأهم. فلقد كان الدرس الأول، وربما مفتاح النصر الأساسي، الذي تعلمه جياب (الشاب قليل الخبرة حينها والمهووس فقط بكيفية الحصول على السلاح) من هوشي منه في تلك الليلة الباردة من عام ١٩٤٤، في أحد كهوف شمال فيتنام حين تقرر إطلاق المقاومة حاسما: «الإنسان أولا، ثم السلاح».
بقية القصة أصبحت معروفة: في ٢٤ ديسمبر ١٩٤٤، قاد جياب شخصيا نصف رفاقه في الهجوم على أحد المعسكرات الفرنسية التي تم اختيارها بعناية فائقة في منطقة تسمى «فاي خات»، فيما قاد رفيق آخر له، وفي نفس الوقت، الهجوم على معسكر آخر على بعد خمسة وثلاثين كيلومتراً في منطقة «نا نغان». كان جياب يتعمد الضرب في المكانين في نفس الوقت لمضاعفة تأثير العملية، ولتحويلها إلى لحظة فارقة في تاريخ فيتنام وتاريخ المقاومة العالمية. انتهت العمليتان بقتل كل العسكريين الفرنسين في المعسكرين، فيما غنم جياب ورفاقه، الذين لم يخسروا مقاوما واحدا يومها، الكثير من العتاد استعدادا لحرب طويلة سيتجاوز فيها تعداد شهداء جيش التحرير الشعبي لوحدهم المليون مقاتل. بعد تلك الليلة بثلاثين عاما ستنتهي الحرب باقتحام سايغون (وسيتم تسميتها «مدينة هوشي منه»، وفاءً للقائد العظيم لتلك المقاومة الفذة الذي رحل في ٤ أيلول ١٩٦٩، قبل أن يشهد ذلك اليوم)، وإعادة توحيد فيتنام، وهزيمة الامبراطوريتين الأقوى، وتغيير العالم. لهذا، أصبحت المقاومة الفيتنامية الحجة على كل شعوب الأرض المستعمَرة. في فيتنام، كما في الجزائر ولبنان كانت العبرة، كما يعلم سيد المقاومة، حسن نصر الله، بسيطة: «مصيرك بيدك».
يوليوس قيصر
في ٢٨ شباط/فبراير ١٩٩٩، وبينما كان موكب العميد ايريز غيرشتاين، قائد قوات الاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان يسير باتجاه مقر القيادة العسكرية الصهيونية في مرجعيون، وعلى بعد أربعة كيلومترات فقط من الحدود الفلسطينية، انفجرت بقرب سيارته المرسيدس المصفحة جيدا مباشرة عبوة ناسفة هائلة فمزقت السيارة كليا، وقتلته على الفور مع سائقه وضابط الاتصالات المرافق له، بالإضافة لصحفي كان يرافقه في جولته(xi). في صباح اليوم التالي، كتب باتريك كوبيرن، مراسل «الإندبندت» من القدس، أن نجاح حزب الله في قتل العميد غيرشتاين «أصاب المؤسسة العسكرية (الصهيونية) بالصدمة»(xii). فغيرشتاين، الذي لم يُقتل بالصدفة، بل كان مقصودا بذاته ولذاته، لم يكن فقط القائد الأعلى للقوات الصهيونية في لبنان، بل، وكان أيضا، الرتبة العسكرية الأعلى التي تسقط في صفوف الجيش الصهيوني منذ غزوه للبنان عام ١٩٨٢ ــــــ باستثناء اللواء يكوتيل آدم، نائب رئيس الأركان الصهيوني أثناء غزو لبنان عام ١٩٨٢ ورئيس الموساد المعين حينها ـــــــ أرداه شبل فلسطيني من مسافة الصفر. كان يكوتيل يحاول الهرب والاختباء حين قصفت المقاومة الفلسطينية مقر إدارة العمليات الصهيوني في الدامور فجاء أثناء هربه وجها لوجه مع ذلك الشبل الفلسطيني، ليكون بذلك أعلى رتبة عسكرية صهيونية تلقى حتفها في تاريخ الصراع العربي الصهيوني على الإطلاق. لكن هزيمة حزب الله للكيان الصهيوني لاحقا، في حرب تموز، ستكون السبب الذي أدى إلى استقالة/إقالة ابنه، الجنرال عودي آدم، قائد «المنطقة الشمالية» حينها ــــــ لا بد أن لبنان والمقاومة أصبحا كابوسا على تلك العائلة.
جاء الرد الصهيوني «الغاضب» على مقتل غيرشتاين من البر والبحر والجو، مترافقا بالعنتريات الإعلامية لنتنياهو، رئيس وزرائهم حينها. لكنه، في الحقيقة، وكما ستظهر الأيام القليلة اللاحقة، كان تعبيرا قاطعا عن العجز والفشل والهزيمة. ففي ذات الوقت الذي كانت الطائرات والسفن الحربية والمدفعية الصهيونية تقصف داخل لبنان، كانت الحكومة الصهيونية تطلب من مئات آلاف المستوطنين في شمال فلسطين، المشغولين حينها بالتجهيز للاحتفال بعيد «بوريم»، النزول فورا إلى الملاجئ تجنبا لقصف حزب الله المضاد، وقضاء العيد تحت الأرض ـــــــ ومن يعرف ما معنى عيد «بوريم» وتاريخه، كان سينظر بالكثير من السخرية والهزل للاحتفال به تحت الأرض وتحت القصف. لهذا، وبرغم كل رائحة البارود التي ملأت الهواء والتراب والبحر، أدركت القيادة الصهيونية حقيقة ومعنى اغتيال غيرشتاين بهذه الطريقة بعد ١٨ سنة من الاحتلال والمقاومة: انتهت اللعبة. انتصر حزب الله.
فبعدها بأسبوعين بالضبط، في الأسبوع الثاني من آذار ١٩٩٩، كان ايهود باراك (بالذات) أول من تجرأ على إعلان هذه النتيجة، ولهذا بالضبط لم يكن هذا الإعلان أقل من اعتراف مدو وصارخ بالهزيمة. فباراك، الذي وصل لهذه النتيجة، وحتى جعلها محور حملته الانتخابية لرئاسة الوزراء (وكانت سبب نجاحه)، لم يكن مجرد مرشح، ولاحقا مجرد رئيس للوزراء (1999 ــــــ 2001) أشرف على الانسحاب المذل من الجنوب، ولم يكن فقط مجرد رئيس أركان آخر للجيش الصهيوني، أو حتى مجرد فريق آخر (أعلى رتبة في الجيش الصهيوني) خدم في قيادة الجيش الصهيوني (١٩٩١ ــــــ ١٩٩٥). كان ايهود باراك، الذي أعلن الهزيمة والعجز أمام حزب الله وقرر الهرب وأشرف بنفسه على الانسحاب، هو الجنرال الصهيوني الحاصل على أكثر عدد أوسمة في تاريخ الجيش الصهيوني على الإطلاق، منذ كان ضابطا، فرئيسا للاستخبارات العسكرية، أمان، (١٩٨٣ ــــــ ١٩٨٥)، ثم قائدا للمنطقة الوسطى (١٩٨٦ ــــــ ١٩٨٧) ولاحقا نائبا لرئيس الأركان (١٩٨٧ ــــــ ١٩٩١) ثم رئيسا للأركان. كان باراك في عيون الكثيرين منهم هو «جدار الحماية» (Firewall) الأهم الذي اعتمدوا عليه لحمايتهم بسبب ما قيل عن خبرته وتجربته وحنكته العسكرية والأمنية «المنقطعة النظير» في تاريخ الكيان كله. لكن عملية تصفية العميد غيرشتاين، وبتلك الطريقة المشهدية والمثيرة تحديدا، وبذلك التخطيط الدقيق جدا، لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر أهم جنرال صهيوني انتجه الكيان على الإطلاق. فالحقائق التي تراكمت أمامه على مدار ثمانية عشر عاما كانت مرعبة وقادته رغما عنه إلى تلك النتيجة.
الحقيقة الصاعقة التي عرفها الجنرال «الأسطوري» جيدا شملتها نشرية (كتاب) لحزب الله صدرت في شباط ١٩٩٦ وتتضمن قائمة بـ ٦٦٠ عملية مقاومة في عام واحد فقط (١٩٩٥)، حين كان باراك ذاته رئيسا للأركان ــــــ كانت عمليات المقاومة تتصاعد عاماً بعد عام، كمّا ونوعا، ما يعني فشل الاستراتيجية الصهيونية ونجاح استراتيجية المقاومة بصرف النظر عن قيادة باراك لرئاسة الاركان. كان الأفق، لذلك، وبعد تجربة ثمانية عشر عاما يبدو واضحا كالشمس لمن لم يختم الله «على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة»: المقاومة تشق مسار النصر بالدم وفولاذ الرشاشات والصواريخ، ولا يمكن لأي حل تقني أو فني يملكه الجنرال أن ينقذ اليوم. بعدها بعام ونصف تقريبا، تشرين الثاني/نوفمبر، سيعلن السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته أن حزب الله قدم ١١٧٩ شهيدا منذ بداية الصراع مع الكيان الصهيوني عام ١٩٨٢. أما العدو، فكان يعرف أن عدد قتلاه منذ بداية الغزو في حزيران ١٩٨٢ كان ٩٣٩ جندياً وضابطاً إسرائيلياً و٣٥٨ جندياً وضابطاً من جيش لحد العميل (بمجموع ١٢٩٠). هذه الأرقام، يقول رونين بيرغمان، كبير المحللين السياسيين والعسكريين في يديعوت احرونوت، محقا، «غير قابلة للهضم»(xiii) في سياق مواجهة من هذا النوع بين طرفين غير متكافئين على الإطلاق في القوة العسكرية والمصادر والإمكانات. في الحقيقة، هذه الأرقام مذهلة جدا، تحديدا لو قورنت بتجربة القائد الأسطوري الفيتنامي جياب الذي كان سيَقبل، وقبل فعلا، بعشرات أضعاف، وحتى مئات أضعاف عدد المقاتلين الشهداء نسبة لقتلى العدو، إذا أخذنا بعين الاعتبار الاختلال الهائل في موازين القوى وفي الإمكانيات. لكن المذهل، ربما أكثر من كل ذلك حقا، هو أن حزب الله لم يكن فقط يقتل جنود «إسرائيليين» أو عملاء في جيش لحد، أو بشكل أدق، لم يكن يقتل أي جنود «إسرائيليين»، أو أي عملاء في جيش لحد، ولهذا كان دائما لعملياته وقع وصدى كبير وتأثيرا هائل. لهذا بالضبط شكلت عملية قتل غيرشتاين نقطة تحول، فهي كانت الأخيرة، لكنها لم تكن الأولى. فلقد سبقها، حسب اعترافهم على الأقل، مقتل رتب رفيعة عديدة من بينها عقداء وضباط برتبة مقدم.
أما في جيش لحد العميل، فما قد لا يعرفه بعض من شاهد فيديو «تصفية العميل عقل هاشم»(xiv) نائب قائد جيش لحد العميل، هو أن هاشم (القائد الفعلي لجيش لحد منذ أن أخرجت البطلة سهى بشارة العميل أنطوان لحد ذاته من الخدمة) كان يتبجح، كما روى بيرغمان، بأنه «مضاد للرصاص» وأنه لا يمكن قتله أو المس به (ص:٢٥١). لكن في ظهر يوم الأحد، ٣٠ كانون الثاني عام ٢٠٠٠، كان هاشم، هذا، على موعد مع «رجال مغنية الذين حرصوا على تصوير العملية»، كما كتب بيرغمان. ففي ذلك اليوم، وبرغم كل إجراءات الحماية والحراسة والتحصين والمراقبة، زرع المقاومون مجموعة من العبوات الناسفة في عمق المنطقة المحتلة في خراج بلدة دبل. كان هاشم يومها يحضّر «كانون الفحم» تجهيزا لحفلة شواء لم تكن نهايتها على الإطلاق كما اشتهى صاحبها. ففي اللحظة المناسبة (الساعة ١٢:٤٥ ظهرا) فجّر المقاومون تلك العبوات المزروعة بِحِرِفِيَة عالية، فلم يعد هناك بعد تلك اللحظة شخص اسمه «عقل هاشم». كانت هذه الضربة المعنوية الأكبر التي قادت لتفكك جيش لحد العميل بعدها بأربعة أشهر.
ما أدركه باراك، متأخرا قليلا (لأنه، كما يبدو، قد صدّق فعلا، ولو لحين، ما يُكتب ويقال عنه)، أنه يواجه عقلا من نوع مختلف في الطرف المقابل، لا يوجد وصفات ناجحة لمواجهته في الأكاديميات العسكرية الغربية. أدرك أنه يواجه الجيل الأحدث والأخطر والأكثر حرفية وجدية على الإطلاق من فئة المقاومين التي انتمى إليها ماو تسي تونغ في الصين، هوشي منه وجياب في فيتنام، تشي غيفارا في كوبا، وهواري بو مدين في الجزائر، ووديع حداد في فلسطين، والتي لم تعرف، ولم تقبل، إلا الانتصار الحاسم حتى في مقابل الإمبراطوريات الأعتى في التاريخ. ففي الطرف المقابل كان مقاوم من الجيل الجديد اسمه عماد مغنية، لم يجد روبرت بير (عميل السي آي ايه المكلف اغتياله، والذي طارده لسنوات وأصبح مهووسا به) شبيها له إلا يوليوس قيصر، أحد أعظم القادة العسكريين في التاريخ، وتحديدا في أعظم إنجازاته العسكرية على الإطلاق في احتلال فرنسا ــــــ وحتى حين ذكر بير لاحقا سقوط يوليوس قيصر، فلقد شبه مغنية بمن استطاع التغلب على يوليوس قيصر وقتله، وليس بيوليوس قيصر ذاته هذه المرة. (ص: ١٢٤).
فلقد قام الشهيد مغنية، يقول بير، «بتعليم نفسه أن يوجه العنف بدقة وكفاءة فائقة نحو أهداف عسكرية محددة ومقررة/معروفة جيدا مسبقا بفعالية كبيرة. كان يجمع بين تطبيق دقيق من المفاجأة، والسرعة، والدقة، ما يلقي أعداءه في حالة من الفوضى والتراجع»(ص: 4). لم يتخرج عماد مغنية من الكليات العسكرية الغربية «المرموقة»، كما هي حالة ايهود باراك، لكنه، كما يقول بير، «استوعب بشكل حدسي أن الظهور غير المتوقع للعنف الدقيق والفعال يضرب عصبا حساسا في الإنسان ــــــ انه بعض الخوف البدائي الذي يتفوق على كل عنف آخر» (ص: 4). هذا التوصيف للإدراك العبقري لفكرة ومنطق وطبيعة العنف الثوري، لدى الشهيد مغنية، كان نتيجة قراءة بير لسلسلة من العمليات التي تنسب للحاج عماد (أو تلك التي يعرف الجميع أنه نفذها) وطريقة تصرفه واستخدامه للعنف والرموز، وحتى عدد ونوع القتلى. لهذا بالضبط كانت المجموعة الأميركية المكلفة اغتيال الشهيد مغنية منذ منتصف الثمانينات مصابة بالرعب من أن تصل يد مغنية إليها قبل أن يعرف أعضاؤها حتى مظهره أو أي معلومات عنه ــــــ يروي بير أن رفيقاً له عضواً في المجموعة التي كانت تحاول عبثا جمع معلومات عن الحاج رضوان من أجل اغتياله، يُدعى تشاك، كان مصابا بالرعب لدرجة انه قام بتفخيخ شقته في بيروت وحوّلها إلى «قفص من الألغام»، اعتقادا منه أن يد مغنية ستصله حتما أولاً. و«لم يكن تشاك، طبعا، يبالغ في هوسه ورعبه من مغنية»، يقول بير، لأنه (أي الحاج عماد) لو أراد فعلا أن يقتله «فلم يكن ليمنعه أبداً قفص الألغام» الذي كان يعيش فيه تشاك من الوصول إليه (ص: 4).
كان الشهيد مغنية وقيادة حزب الله (تماما كما جاء في نصيحة هوشي منه لجياب)، كما يبدو، مهتمين ليس فقط بالبعد العسكري لعمليات المقاومة، بل أولا وأساسا بأثرها وتبعاتها النفسية والثقافية والمعنوية على كل الكيان الصهيوني(xv)، أو، بما يمكن أن نسميه «البعد غير العسكري» للعمليات العسكرية ــــــ ما اختصره السيد نصرالله مرة بـ«كي الوعي». كان مغنية ورفاقه ينظرون إلى العمل العسكري بشكل شامل(xvi). لهذا كان اختيار الهدف والتوقيت والأسلوب والعدد دائما مهما. ينقل رونين بيرغمان في كتابه عن مصادر استخباراتية بريطانية أن الشهيد عماد مغنية كان يقف شخصيا خلف التخطيط لعملية الجهاد الإسلامي في ٦ نيسان ١٩٩٢ والتي استهدفت أساسا الجنرال إسحاق موردخاي الذي نجا بأعجوبة وكثيرٍ من الحظ، بسبب تغيير في برنامجه في اللحظة الأخيرة ــــــ كان موردخاي حينها قائد المنطقة الشمالية، وأحد ألمع الجنرالات في الجيش الصهيوني، وأصبح لاحقا «وزيرا للدفاع» وأوشك أن يصبح رئيسا للحكومة، مثل باراك، لولا فضيحة أخلاقية أجبرته على الاعتزال ــــــ هل يمكن تخيل تبعات مقتل موردخاي، بعد كل ما نعرفه عن تبعات مقتل غيرشتاين، الأقل رتبة؟ لكن الموكب الذي وقع يومها في الكمين المحكم وانتهى بقتل جنديين وجرح عدد آخر منهم، كان يضم أيضا العميد ميخا تمير، قائد وحدة الارتباط في جنوب لبنان وعددا من الضباط ذوي الرتب العالية، الذين استدعى إنقاذهم تدخل دبابات ميركافاه كانت في المنطقة لتغطية هروبهم. لا يهم أن موردخاي وتمير نجيا من الموت شبه الأكيد، إذن. ما يهم هو طريقة التفكير التي قادت للانتصار في أيار.
كان ايهود باراك، نجم الكيان العسكري وعقله الأمني الأهم والأخطر هو فعلا من أعلن الهزيمة في مواجهة المقاومة. لكن، وللتذكير، لأن أضعف حبر أقوى من أقوى ذاكرة، لم يكن باراك، هذا، الجنرال الصهيوني الوحيد الذي شغل منصب رئاسة اركان الجيش منذ الغزو الصهيوني للبنان عام ١٩٨٢ وحتى الهزيمة الأولى في أيار ٢٠٠٠ والثانية في تموز ٢٠٠٦. فمنذ الغزو عام ١٩٨٢ (رفائيل ايتان) وحتى انتصار تموز في ٢٠٠٦ (دان حالوتس) شغل هذا المنصب ثمانية من أهم جنرالات الكيان الصهيوني على الإطلاق (وكلهم برتبة فريق)، وكلهم فعلوا كل ما بوسعهم فعله للقضاء على المقاومة. لكن، ولأن عماد مغنية كان يقود المقاومة المسلحة في الطرف الآخر، انتهت المعركة في أيار ٢٠٠٠، كما أراد لها الحاج رضوان أن تنتهي بالضبط ـــــــ انتهت في مشهد من الانسحاب المذل والفوضوي الذي لطخ سمعة كل عسكري صهيوني الى الأبد