الظاهر أنّ القضاء اللبناني لم يعد يرى مُشكلة في التعامل التجاري مع الإسرائيليين. الظاهر أيضاً أنّ ميشال ضاهر، الذي لم ينف سابقاً شراكته التجاريّة مع إسرائيلي، مسرور الآن بقرار القضاء، كسروره بأنّه أصبح نائباً يلوّح بحصانته، وكسروره، أيضاً، بالصمت العجيب مِن الجميع
الآن، تحديداً الآن، وفجأة، ما عاد مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة، القاضي بيتر جرمانوس، يقبل التحدّث عبر الهاتف… وسيقفل الخط. الآن، بعدما أصبح في موقعه الجديد، وبعدما أحال إليه النائب العام لدى محكمة التمييز، القاضي سمير حمّود، إخبارين، مِن جهتين منفصلتين، ضدّ رجل الأعمال (النائب) ميشال ضاهر على خلفيّة شراكته في أعمال تجاريّة وماليّة مع إسرائيليين. لم نتّصل بجرمانوس حبّاً بسماع صوته، ولا رغبة في الدردشة معه، إنّما فقط لسؤاله، في القانون، عمّا قرأناه عن حفظه (بمعنى ردّه) للإخبارين المذكورين. هذه القضيّة التي كانت «الأخبار» أثارتها (يوم 13 نيسان 2018) حول ضاهر تحت سقف «الشبهة». قرأنا قرار القاضي المذكور في وسيلة إعلامية كخبر. اتصلنا بالمحامي حسن بزّي، الذي كان تقدّم بإخبار للنيابة العامّة التمييزيّة ضدّ ضاهر، وسألناه عن المجريات، فأجاب: «غريب، كيف لم أستدع مِن قبل القاضي ليستمع إلى ما لدي مِن معلومات، على غرار ما تفعل نيابات عامة أخرى، إذ فجأة أقرأ أن الإخبار جرى حفظه. الظاهر أنّ القضاء أصبح رافعة للقوى السياسيّة النافذة في لبنان، وبالتالي، وهذا ما بات علينا أن نقوله، أصبح نزاعنا الآن مع القضاء نفسه». يضيف بزّي: «الشبهة التي تقدّمنا بها هي جناية بحق ضاهر، لا جنحة، والموضوع يتعلّق بالتعامل التجاري مع الإسرائيليين، هذه ليست مزحة. لقد ضمّنت إخباري ملفات فيها أوراق كثيرة، وبعضها يحتاج إلى ترجمة، تحتاج أيّاماً للقراءة، فكيف بتّ القاضي المسألة في جلسة عابرة وأقفل الملف! أصبح لدي ارتياب الآن. عموماً، سأبادر إلى طلب التوسّع في التحقيق، عبر النيابة العامة التمييزيّة والقاضي سمير حمّود، وسأطلب مِنه أن يستعيد الملف وأن يُحيله إلى قاضٍ آخر».
بالمناسبة، ما رأي القاضي حمّود بالمسألة، وهو رأس النيابات العامة كلّها، بما فيها العسكريّة، وهو الذي أحال الإخبارين إلى جرمانوس؟ نتّصل بحمود للاستفسار. يتّضح لنا أنّ لا علم له بما حصل بعد الإحالة. ربّما علينا هنا تذكير الجميع بنص المادة 13 مِن قانون أصول المحاكمات الجزائيّة، وفيه أنّ سُلطة النائب العام لدى محكمة التمييز «تشمل جميع قضاة النيابة العامة، بمن فيهم مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة، وله أن يوجّه إلى كلّ مِنهم تعليمات خطيّة أو شفهيّة في تسيير دعوى الحق العام». فقرة أخرى مِن المادة المذكورة تنص على أنّه «يُحيل على كلّ منهم، بحسب اختصاصه، التقارير التي ترده بصدد جريمة ما ويطلب إليه تحريك دعوى الحق العام فيها». هل باتت قضايا التعامل مع الإسرائيليين، ولو تجاريّاً، بسيطة إلى هذا الحد أمام القضاء اللبناني! خفيفة إلى هذا الحدّ! ما الذي يريد القضاء قوله بحفظ أوراق الملف؟ أنّ التعامل مع الإسرائيليين لم يعد جريمة؟ حسناً، فليُعدَّل القانون، أو يُلغى، وإلا فليطبق. الظاهر أنّ هناك مَن يحتاج إلى تذكيره بوجود قانون اسمه «قانون مقاطعة إسرائيل»… وأنّ المادة الأولى مِنه تنص على الآتي: «يحظر على كل شخص طبيعي أو معنوي أن يعقد بالذات أو بالواسطة اتفاقاً مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل، أو منتمين إليها بجنسيتهم، أو يعملون لحسابها أو لمصلحتها، وذلك متى كان موضوع الاتفاق صفقة تجارية أو عمليات مالية أو أي تعامل آخر أيّاً كانت طبيعته، وتعتبر الشركات والمؤسسات الوطنية والأجنبية التي لها مصانع أو فروع تجميع أو توكيلات عامة في إسرائيل في حكم الهيئات والأشخاص المحظور التعامل معهم». كذلك مِن الجيد التذكير بالمادة 7 مِن القانون المذكور، التي تنص على أنّه «يُعاقب كلّ من يخالف أحكام المادة الأولى بالأشغال الشاقة الموقتة مِن ثلاث إلى عشر سنوات». الحديث هنا عن جناية. جناية يا جرمانوس.
في مطلق الأحوال، فليُصارح الرأي العام بحقيقة ما خلص إليه القضاء مِن أسباب تجعله يحفظ الملف. كيف يقبل القاضي حمّود أن يقفز فوقه القاضي جرمانوس ولا يطلعه على ما توصّل إليه! مَن فوق مَن هنا؟ يكتفي حمّود بالقول: «يبدو أنّ الملف لم يتضمّن معطيات كافية لتأكيد الشبهات فحُفِظ الإخبار»! هكذا، بهذه البساطة!
الإخبار الثاني المقدّم إلى النيابة العامة التمييزيّة، في القضيّة نفسها، هو مِن «حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان» وعضوها المؤسس سماح إدريس. اتصلنا بالأخير وسألناه عمّا لديه مِن معطيات ورأيه بمسار القضيّة، وهذا تصريحه: «تستغرب الحملة وتستهجن الخبر الذي ورد في الإعلام عن حِفظ القاضي بيتر جرمانوس الإخبار المقدّم، من دون استدعاء الصحافي الذي كتب عن الموضوع بداية للاستماع إلى ما لديه من معلومات، هذه المعلومات التي تضع النائب المنتخب ميشال ضاهر في دائرة الشبهة. لقد أُبلغنا من وسائل الإعلام كأنّه خبر عادي لا قيمة له». يستعيد إدريس الأسباب التي دفعت لتقديم الإخبار، متحدثاً عن «فترة انتظار تلت نشر المقال لم يتحرّك فيها أحد من المعنيين والقضاة، ما دفعنا للتقدم بإخبار لتحريك القضية. نامت القضية أكثر من شهر ثم حُفظت بشكل غريب. اليوم نُطالب بإعادة تحريكها… يا عمي هذا نائب في المجلس النيابي، نريد أن نعلم ما هي الحقيقة». عموماً، تتحضر «الحملة» إلى ادّعاء يُقدّم من نُشطاء في حملة المقاطعة.
المضحك في الخبر، الذي نُشر في الإعلام، أنّ ضاهر حضر إلى مكتب جرمانوس «مدلياً أنّه يتنازل عن حصانته النيابيّة ومصرّ على استجوابه». يتنازل عن حصانته! أها! هذه هي. إنّها «الفشخرة» بالحصانة. على أحد مِن مستشاري النائب المنتخب أن يخبره أن تاريخ هذه القضية سبق فوزه بالانتخابات، لذا لا حصانة له أصلاً، وبالتالي عليه «عدم بَيعنا سمكاً في البحر». وقبل ذلك، مَن قال له إنّ القاضي هو المرجع الصالح للتنازل عن الحصانة أمامه! يا نائب، هذه صلاحية مجلس النواب والمسألة ليست في العراضات البيانيّة. صيغة الخبر كانت أكثر استفزازا بعد. فذُكِر أنه حضر وأصرّ على استجوابه. ما هذه المهزلة؟! هل يمكن لأحد أن يصدّق ذلك؟ تخيّلوا المشهد. دخل المشتبه فيه على القاضي مصرّا على أن يستجوبه، فرضخ الأخير!! لكن مهلا.. استجواب «أهلية بمحلية» لم يلبث أن فُضّ على عجل وحُفظ الإخبار.
غريب هذا الصمت، مِن جميع القوى السياسيّة في لبنان، على هذه المسألة. أثيرت قبل الانتخابات، ثم حصلت الانتخابات، وفاز ضاهر، والكلّ يُراقب بهدوء. لقد جلس ضاهر أمس في المجلس النيابي، تحت سقف واحد مع نواب قدامى وجدد، مِنهم نواب المقاومة وسواهم، وبات زميلاً للجميع. بات في مجلسنا النيابي نائب تاجَر مع الإسرائيليين، وهذا ما لم ينفه هو، ومع ذلك لم يجد القضاء أنّ الأمر يستحق التحقيق… ولو كشبهة!