تحدي معركة الفساد ليس بنداً عادياً على جدول أعمال القوى السياسية الكبرى، خصوصاً صاحبة البرامج التي تتضمّن أجوبة أو تصوّرات حول معالجة أمور الدولة والناس. وهذه حال جهة مثل حزب الله الذي أكد أمينه العام السيد حسن نصرالله خلال الانتخابات النيابية، ويوم الجمعة الماضي في مناسبة عيد التحرير، مضيّ أكبر قوة سياسية وشعبية لبنانية في هذه المعركة، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة في مواجهة الشأن العام.

طبعاً، الحزب يتوقع أن يكون تحت المجهر من الآن فصاعداً. وسيضطر، من أمينه العام الى أصغر مسؤول خلية فيه، إلى الإجابة عن أسئلة الناس، ليس فقط حول النتائج المتوخاة، بل حول الوسائل والادوات والعناوين. ومن المفيد تحذير الناس قبل الحزب، وقبل اللجنة المكلفة برئاسة نائب مجتهد ومحترم وموثوق هو حسن فضل الله، من أن العنوان الأهم يجب ألا يقع تحت عنوان مكافحة مظاهر الفساد في لبنان، وهي تحتاج الى مكافحة. لكن الأهم العودة الى أصل الحكاية، والى مواجهة الحقيقة التي يهرب منها اللبنانيون عقداً بعد عقد، وحرباً بعد حرب، وعهداً بعد عهد، وتتعلّق بأصل بنية هذا النظام، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

قد يكون حزب الله أدخل نفسه في مغامرة كبيرة. وفيه من المسؤولين، كما من الاصدقاء والحلفاء، من لا يريدون له التورط في لعبة لن تؤتي ثمارها في ظل النظام النتن القائم. وربما يتطوع كثيرون، من الفاسدين أولاً، ليطلبوا من الحزب، بخبث متجذر في عقولهم، بأن لا يدخل نفسه في هذه المتاهة، ثم يغرقونه بمديح المقاومة والمقاومين والأخلاق والترفع، تماماً كما سبق ذات مرة لنائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدام أن قال، إثر انتخابات عام 1996، إنه ليس مطلوباً من حزب الله الدخول في إدارة الدولة. لكنه قدّم الأمر من زاوية فيها ذروة الخبث: ما لكم وبئر الفساد هذه، ترفّعوا عنها، واتركوها لحفنة من السياسيين الفاسدين، وتفرغوا للعمل الشريف في المقاومة ضد الاحتلال!

لم يكن حزب الله في حينه يفكر أبداً في التورط باللعبة الداخلية، ولم يكن خدام يقصد تنزيه الحزب عن الفاسدين من السياسيين الذين أتوا بدعمه الى مراكز النفوذ الأرفع في الدولة. لكن لسان حاله يومها هو لسان حال الفاسدين اليوم، الذي باشروا معركة تيئيس الناس من أي محاولة إصلاحية، من خلال القول إن حزب الله سيسيء لنفسه إن دخل هذه المغامرة.

لكن، بالعودة الى التحذير الضروري، فهو يتصل أولاً بأن حزب الله يملك من الخبراء والخبرات، والمعرفة المباشرة وغير المباشرة بأحوال الدولة، ما يجعله قارئاً دقيقاً للأزمة في لبنان. وهو، ومن منطلقه العقائدي، القائم على الفصل بين الخير والشر، وبين العدالة والظلم، يعرف أن النظام القائم في لبنان هو أساس المشكلة، وأن الفساد له أهله، في السياسة والاقتصاد والاجتماع.
إن قبول حزب الله مهمة مكافحة الفساد يعني قبوله مهمة التشارك مع آخرين في إعادة بناء الدولة بطريقة مختلفة عن السائد. وهذا يعني أن أمام الحزب مسؤولية اقتراح بدائل واقعية لطبيعة النظام القائم. من قانون الانتخابات النيابية نفسه، الذي يحتاج الى تطوير يسقط التصويت الطائفي والمذهبي فيه، الى السياسات الاقتصادية التي تقوم على تحويل البلاد من منظومة استهلاك عشوائي الى منظومة إنتاج، وعلى تغيير جوهري للسياسات المالية والنقدية، التي تتيح توازناً منطقيا بين مداخيل الناس وواجباتهم تجاه الدولة، ما يقود الى إعادة الاعتبار الى دور الدولة، من دون إغفال الدور الريادي الممكن للقطاع الخاص، لكن القطاع الخاص الساعي الى نمو حقيقي في البلاد وليس الى نمو ودائع قلة قليلة تسيطر على غالبية الاموال والخيرات لدينا.

لذلك، فإن العناوين الاساسية تتعلق بإعادة تنظيم دور المؤسسات، من المجلس النيابي الى الحكومة الى الادارات العامة، وبتحديد واضح لدور المؤسسات البارزة، لا سيما العسكرية منها، وتأهيل القطاعات الاساسية في تطور البلدان من قطاعات الخدمات والصحة والتعليم، من دون إغفال دور الهيئات الرقابية كمجلس الخدمة المدنية، وإعادة الاعتبار إلى نصوص تتيح للموظفين أن يدخلوا إلى الدولة على أساس الكفاءة أولاً، وليس وفق المعيار الطائفي والمذهبي، باستثناء الفئة الأولى منهم. وهذا لا يمكن إنجاز حمايته من دون قضاء، لا يهم إن كان مستقلاً أو لا، بل المهم أن يكون نظيفاً، لا يحتاج المواطن الى وسيط معه.
ماذا عن بقية الناس؟

منذ توقف الحرب الاهلية، عاودت قوى كثيرة في البلاد تقديم أولوية بناء الدولة على الشعارات الوطنية الكبرى. وبرزت خلال 25 سنة قوى وتيارات ومجموعات، تضع ملف مكافحة الفساد في رأس اهتماماتها. وهذه الجماعات لم تعد توجد في إطار سياسي واحد، كما كانت حال اليسار الراديكالي أو يسار الوسط سابقاً، بل شهدنا تراجعاً لأحزاب اليسار، وتوزع الكوادر بين الالتصاق بقوى الحكم من جهة، أو مؤسسات القطاع الخاص من جهة ثانية، ثم اجتاحتنا جمعيات «المجتمع المدني» أو «المنظمات غير الحكومية» المموّلة من جهات خارجية، مشبوهة الأهداف، حتى صرنا أمام خليط مثير للغثيان، وما إن أتت الانتخابات النيابية الاخيرة، حتى ظهر الحجم «شبه» الحقيقي لهذه المجموعات، التي لا مبالغة في القول إنها تمثل مجتمعة أقل من خمسة في المئة من مجموع المقترعين في لبنان. وحتى لا يغشنا أهل السلطة ومعارضوهم، فإن المقترعين في لبنان يمثلون غالبية ساحقة من الناخبين المقيمين في لبنان، وربما في إحصاء دقيق، يظهر معنا أن أكثر من 85 في المئة من المقيمين هم من اقترعوا. وتبين أن هؤلاء لا يعارضون الاستماع الى آراء ومواقف من ينسبون لأنفسهم صفة المعارضة الناطقة باسم الصامتين أو معارضي حكم الفاسدين وغيرها من العناوين الباهتة. وعلى هؤلاء التيقن من أن أبرز أسباب الامتناع عن التصويت لهم، ليس النقص في برامجهم أو وسامة خصومهم، بل في النقص الحاد في تصورهم السياسي والاقتصادي الاجمالي، وهو ما جعلهم فقراء بالمعنى الواقعي أمام المقترعين، الذين عادوا مرة جديدة وبايعوا من يعتقدون أنه يمثل شبكة الأمان السياسي والاقتصادي والمعيشي لهم، ولو عن طرق موازية لطريق الدولة الرئيسي.

أمام هذه المجموعة اليوم، ليس اختبار استعدادهم للانخراط في معركة حقيقية لمواجهة الفساد العام فقط، بل اختبار مصداقيتهم في السعي الى بناء مختلف للدولة، يقوم على احترام استقلال الدولة، وعدم تبعية الفرد لطائفة أو مجموعة. وهذا يفرض عليهم واحداً من أمرين:

ــــ من يثق منهم بحزب الله ولا يعارض بقوة خياراته الكبرى، عليه أن يظهر جدية في التفاعل مع هذه الدعوة، أو استغلالها لإطلاق حركة إصلاحية حقيقية حتى من دون التنسيق مع حزب الله.

ــــ من لا يثق بحزب الله وينظر اليه على أنه جزء من النظام الحاكم، عليه المبادرة الى طروحات متكاملة، تجعل جمهور حزب الله يستمع اليه أولاً، وتجعل بقية الجمهور الراغب في الاصلاح يقبل به فاعلاً في مواجهة كل أنواع الفساد، بما في ذلك فساد الارتماء في أحضان مؤسسات الاستعمار والسفارات.

الجميع أمام التحدي الكبير، لكن الأكيد أن توقيف دركي مرتش أو موظف متكاسل، أو متهرب من دفع اشتراك المياه، أو ضريبة البلدية، لن يساوي شيئاً إذا لم تُعد أموال الدولة المنهوبة بقانون واضح، وأن يجري تعديل جذري للسياسات العامة، تتقلص معها الى الحد الممكن الفروقات بين الناس، وتستعيد ثقة الناس بمؤسسات الدولة.

المصدر: ابراهيم الأمين – الأخبار