فاجأ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع راصدي مسار مشاورات التكليف التي أجراها رئيس الجمهورية بكسره البروتوكول ليكون «ضيف الغفلة» على الرئاسة الأولى. خطوة استثنائية لا تحدث في كل مرة يفتح فيها قصر بعبدا أبوابه ليسأل النواب عن هوية السنيّ الذي يريدونه لتأليف الحكومة. فعلها جعجع، والأرجح أنّ اعتباراته الطارئة وغير العادية هي التي أملت عليه هذه الخطوة.

يكفي اجراء حساب بسيط لنتائج انتخابات نيابة رئاسة مجلس النواب وأمانة السرّ التي كانت تطمح «القوات» الى ابقائها ضمن حصتها، للتأكد من أنّ الفأر يلعب في عبّ معراب ويثير الخشية في نفوس رئيسها مما يحمله قابل الأيام على المستوى الحكومي.


يقولها «القواتيون» بالفم الملآن، ولو أنّهم يستخدمون مفردات «الاستهداف» و»المحاصرة» من باب استقطاب عطف الرأي العام وتأييده، ويحذرون من «مؤامرة» تحاك ضدّهم. ولكن لماذا الخوف من العزل اذا كان رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري هو الحليف في السراء والضراء؟


أحداث السنتين المنصرمتين تمنح التساؤل مشروعية مطلقة وتجعل من معراب أسيرة الخشية مما يُضمِره الخصوم والحلفاء على حدّ سواء، ولو أنها حققت انتصاراً انتخابياً يرفعها الى مرتبة الشراكة على الساحة المسيحية، بلا «منّة» التفاهم مع «التيار الوطني الحر»... ولكن يبدو أنّ ادراكها فقدان حليفها «الطبيعي» أي تيار «المستقبل» على رغم من محاولات العلاج، يدفع بها الى شنّ حملة استباقية تساعدها على «تقريش» الأرقام الانتخابية مقاعدَ وزارية.


الأكيد أنّ «القوات» نجحت في معاركها النيابية حسب ما خططت لها. ركزّت أصواتها على مرشح واحد في كل دائرة بعدما أمّنت له رافعة أصوات تفضيلية ولو كانت اشبه بـ»البحص» في مساندتها، لكنها تمكّنت من تحقيق «فوز نظيف» رفع حاصل مرشحها الحزبي ليتفوق في بعض المطارح على مرشحي الخصوم، وتحديداً «التيار الوطني الحر» الذي وزّع أصواته بين أكثر من مرشح.


والأكيد أيضاً أنّها بدت في كثير من الدوائر «مضرب مثل» في التنظيم الانتخابي حيث يقال إنّ دائرة الانتخابات في «القوات» كانت قد بدأت ورشة تدريباتها للمندوبين منذ أكثر من ستة أشهر لسدّ الثغرات التي قد تواجهها، وراحت تشرح للرأي العام عن كثب مضامين قانون الانتخابات بواسطة مسؤول حزبي يرافق كل مرشح في جولاته الانتخابية، وعملت على استقطاب شرائح سنية في كل الدوائر المشتركة.


الأكيد أنّ معراب نجحت في استثمار التفاهم المسيحي - المسيحي الذي منحها صك براءة أسقط عنها حواجز رفض كان بعض المسيحيين لا يزالون يرفعونه في وجهها، واذ بصناديق الأوراق التفضيلية تثبت «تحررها» من الماضي، لا بل دل بعض الصناديق الى أنّ خطاب رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل الاستفزازي لم يرق لكثير من المسيحيين الذين باتوا من كارهي منطق الخصومة مع «القوات».


الأكيد أن «القوات» ختمت يوم السادس من أيار وهي مزهوة بالأرقام التي حققتها سواء بتقدمها في عدد النواب لتخرق جبل لبنان بكل دوائره، وسواء بتمددها الجماهيري والذي ظهّره عدد الأصوات التفضيلية التي حصدها حزبيوها.


ولكن هذا التطور النوعي شيء، والقدرة على ترجمته في السياسة شيء آخر. يكفي استعراض شريط السجال «التغريديّ» بين «القوات» و»التيار الوطني الحر»، «القاصف عمر» التفاهم الثنائي لكي يتأكد لمعراب أنّ ما تم التوافق عليه في متن الاتفاق الرئاسي ذهب أدراجه مع الريح، والمعاملة بالمثل في حكومة العهد الأولى (الموأمة بين حصتيّ «التيار الوطني الحر» و»القوات») خطوة يتيمة لا عودة اليها.


كثيرة هي الاعتبارات التي تدفع بباسيل الى شنّ حملة اقصاء ضدّ «القوات» لتحجيمها حكومياً في أسوء الحالات أو إخراجها في أحسنها، ولعل أولها اصرار معراب على تصويب احداثيات معارضتها ضدّ أداء شريكها المسيحي الأقوى، وآخرها قطع الطريق أمام التمدد «القواتي» الشعبي من خلال تقليص «حنفيات» الخدمات الوزارية، وتمر بطبيعة الحال في النزاع المنتظر بين الموارنة على رئاسة الجمهورية.


ولكن هذا الاشتباك بين «التيار» و»القوات»، هو قدر متوقع بين الشريكين المضاربين، لا بدّ له من أن يحصل مهما طال انتظاره، ولا يفترض بمعراب استطراداً أن تعوّل على مساندة باسيل لها في تحصيل حقوقها الوزارية بعد كل «الازعاج» الذي سببته للوزراء العونيين في الحكومة الحالية التي تصرف الاعمال!


واذا كان من دعم محتم فيفترض أن يأتيها من الحريري، لا غيره. بهذا المعنى، «تواضع» جعجع يوم قصد «بيت الوسط» للقاء رئيس الحكومة، ولو أنه كان يشترط التوصل الى تفاهم جديد مع تيار «المستقبل» قبل تتويجه بلقاء الحليف القديم. لكنه فعلها بلا تفاهم.


وفق المطلعين، هي العقدة الحكومية التي أملت على جعجع القيام بخطوات حماية استباقية تحصنه من مشروع التحجيم الذي يستهدفه. لا يتكل طبعاً على «نيّات» الحريري، وانما على المظلة الاقليمية التي تؤمنها السعودية لها بواسطة رئيس تيار «المستقبل».


ولكن الرجل لا يبدو أن ستخلّى عن تفاهمه مع رئيس الجمهورية ومع باسيل لمصلحة أي تنازلات أخرى، وليس في وارد مجاراة أي فريق آخر على حساب العلاقة مع العونيين. ولذا تراه مستعجلاً تأليف الحكومة ملتزماً السرعة التي حددها عون على رغم من الضغوط التي تمارسها السعودية عبر العقوبات المالية، والتي قد تستدعي بعض الروية في التأليف حفاظاً على ماء الوجه لا أكثر!


واذا ما جرت «فلفشة» الأصوات التي نالها النائب أنيس نصار في معركة نيابة رئاسة المجلس، لتبيّن أنّ كثيراً من «الأصوات الزرقاء» تسرّبت من حصته، في خطوة لا تُفهم الاّ بمنطق استحالة ترميم التفاهم «القواتي»- «المستقبلي» مجدداً.


وفق المطلعين، فإنّ معراب تدفع اليوم ثمن رهانها الكامل على السعودية، وقد صار جعجع رجلها الأول في لبنان وقادر على التعاطي مع الرياض مباشرة بلا طرف ثالث، بعدما غلّبت هذا الرهان على منظومة علاقاتها الداخلية، وتحديداً تيار «المستقبل» الذي رفض ترك يدي «التيار العوني» خلال الانتخابات ولم يمنح كل أصواته لمرشحي «القوات» كما كانت تخطط معراب.

المصدر: كلير شكر - الجمهورية