بين المرة الأولى رئيساً مكلفاً تأليف الحكومة عام 2009 واليوم، الفروق أكثر من أن تحصى أمام الرئيس سعد الحريري، أبرزها أنه في المحاولة الثالثة ليس الرجل نفسه ما كان في المرة الأولى. لم يعد يُعرف حلفاؤه الأولون ولا خصومهم الحاليون

خرج الرئيس سعد الحريري من انتخابات حزيران 2009 رئيس الغالبية النيابية التي قبضت عليها قوى 14 آذار، والزعيم الوحيد للسنّة في لبنان، وقائد تيار سياسي أضحى الكتلة النيابية الكبرى في البرلمان لم تتح لأي من أسلافه على مرّ تاريخ هذا البلد بمَن فيهم والده الراحل. مع أن الواجهة كانت للرئيس فؤاد السنيورة ما بين عامي 2005 و2009، إلا ان الحريري الابن استحوذ المرجعية الأصل ليس في تياره فحسب، بل أيضاً في فريق 14 آذار. من السهولة بمكان تلمس دوران وليد جنبلاط وحزب الكتائب والقوات اللبنانية في فلكه.

أكثر من أي وقت مضى مرّ فيه الرئيس رفيق الحريري، بما في ذلك وصوله للمرة الأولى إلى رئاسة الحكومة عام 1992 واكتساحه بيروت في انتخابات 2000 بتوجيهه ضربة قاسية إلى عهد الرئيس اميل لحود، أعطت انتخابات 2009 الحريري الابن ما لم يخطر في مخيلة أحد قبله. بالكاد انقضت ثلاثة شهور على بدء المحكمة الدولية أعمالها في الأول من آذار، وكانت حينذاك جزءاً لا يتجزأ من معادلة القوة والسلطة في الداخل. مع كل فائض القوة ذاك، وجد نفسه يعتذر عن تكليفه تأليف الحكومة الجديدة جراء شروط الحلفاء والخصوم. أعيد تكليفه بعد 80 يوماً، ولم يتمكن من إبصارها النور إلا بعد أربعة أشهر و13 يوماً، فأُعلنت من الرابية لا من قصر بعبدا، وحازت معارضة خسرت الانتخابات النيابية الثلث +1 في نصاب مجلس الوزراء. كان الأول منذ اتفاق الطائف يدفع ثمن هذه المادة في الدستور، إذ يُسقط الثلث +1 الحكومة، ويطيح رئيسها زعيم طائفته ورئيس الغالبية النيابية.

ليس بين يدي الحريري الحالي شيئاً من ذلك كله، وهو يُدعى اليوم إلى تأليف ثالثة حكوماته: ليس زعيم السنّة الوحيد بعدما خذله ناخبوه، فأضحى ثلثهم في كنف الفريق الآخر. ليس رئيس غالبية نيابية صارت بين يدّي الثنائي الشيعي وحلفائه. لم يعد بالتأكيد رئيس التكتل النيابي الأكبر عدداً بتدني أعضائه من 34 إلى 20، بعدما اكتشف الاهتراء في تيار المستقبل وأنزل من مركبه وجوهاً صنعت مرحلة ما بين 2005 و2018. أقصى الذين لازموه غرفة قراراته وأسراره حتى.

الرجل لم يعد نفسه أمام أكثر من امتحان، أوشك أن ينهار تحت وطأته. أولاها محنة 4 تشرين الثاني 2017 واحتجازه في السعودية، وإصراره على كتم حقائقها مع أن صديقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جزم بـ«توقيفه» في المملكة وإنجاده له. لم يسعه العثور على مخرج لاستقالته يومذاك لولا رئيس الجمهورية ورئيس المجلس. خرج من انتخابات 2018 منهكاً بنتائجها. ربح نصف بيروت ونصف طرابلس ونصف صيدا ـ مسقطه ـ ونصف البقاع الغربي، بينما آل النصف الثاني فيها إلى خصومه الألداء. افتقر إلى حلفائه القدامى، فلم يجد أمامه سوى الرئيسين ميشال عون ونبيه برّي.
بل قد يكون المشهد الذي أبصر الرئيس المكلف نفسه فيه البارحة، ولم يكن يتوقع أن يمتحن ذاته فيه، ولا أن يهضمه حتى: أن يستقبل نائباً قال عنه تياره إنه يساوي 127 نائباً، هو النائب اللواء جميل السيّد الذي قال أمس إن الحريري اجتمع به كأنما لا ماضي بينهما. الواقع لكليهما أن ماضيهما، واحدهما في مواجهة الآخر ثقيل للغاية، هو توقيف المدير العام السابق للأمن العام أربع سنوات قبل إطلاقه من المحكمة الدولية بريئاً، مما ساقه إليه الحريري وحلفاؤه في قوى 14 آذار بتهمة ضلوعه في اغتيال والده.

ربما من غير أن يعرفا، ثمة ما يجمع الحريري الابن بجنبلاط الابن، ويفرّقهما أكثر مما هو متوقع عن جنبلاط الأب والحريري الأب، هو أن الابنين ـ خلافاً للأبوين ـ ينحنيان للعاصفة. انحنى وليد جنبلاط لها أكثر من مرة: حينما زار دمشق بانقضاء أربعين اغتيال والده هي المتهمة بأنها الجاني، ثم تحوّله إلى حليفها القوي فمنحته عام 1983 حرب الجبل. انحنى مجدّداً للعاصفة بعيد انتخاب الرئيس اميل لحود وسلّم بالتخلي عن مفاتيح قصر بيت الدين ومكتبة بعقلين وثكنه العسكرية، ثم خبر قرار منع دخوله سوريا عام 2001 قبل أن يتصالح مع اللواء غازي كنعان ويزوره. ثم كانت انحناءة رابعة للعاصفة بمصالحته نظام الرئيس بشار الأسد بعد نعوت 2005 واتهامه إياه باغتيال الرئيس السابق للحكومة إلى حد الاعتذار العلني. لم يمرّ جنبلاط الأب باختبارات كهذه ما خلا اثنين كافيين لإبراز وقوفه في وجه العاصفة: قيادته «ثورة 1958» ضد الرئيس كميل شمعون فلم يتخلّ عن السلاح إلا للرئيس فؤاد شهاب بعد انتخابه، ورفضه دخول الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 إلى أن خسر قبالته المعركة العسكرية فانكفأ إلى قصر المختارة قبل أن يدفع حياته ثمن العناد.

الحريري الابن أيضاً، على طرف نقيض من والده، تدرّب على الانحناء للعاصفة.

مرتان أوشك الحريري الأب أن يشعر بالهزيمة إلا أنه تداركها فتجنبها: عام 1998 عندما أبعده لحود عن رئاسة الحكومة، وعام 2004 عندما استبق تكرار المحاولة مرة أخرى فأخرج هو نفسه سلفاً من السرايا. في أي منهما لم ينحنِ للعاصفة. كان يكفي أن يقول على مر سني عهد الرئيس الياس هراوي إنه يعتكف كي يستنفر المسؤولين السوريين للتوسط لديه، وإعادته إلى السرايا. بذلك لم يُقل مرة عنه أنه هُزم، وإن لم يربح كل حروبه الصغيرة وجهاً لوجه مع هراوي وبرّي.

ليس الحريري الابن كذلك، فلم يُقم في صورة الأب: كان أول رئيس حكومة يُسقطه الثلث +1 في إحدى أقوى لحظات قوته عندما يُستقبل في البيت الأبيض، وأول مرشح لرئاسة الحكومة ـ هو الزعيم الوحيد المفترض للسنّة ـ يخسر أصوات الغالبية النيابية لتكليفه تأليف الحكومة أمام الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011، فلم يتردد في إشعال طرابلس وبيروت احتجاجاً على الهزيمة. سرعان ما تهادنا في الانتخابات البلدية عام 2016، وها هما يتصالحان في الاستحقاق الحالي للحكومة. اتهم سوريا بقتل والده، ثم قادته السعودية إلى مصالحتها عام 2009 قبل أن ينقلب عليها مجدّداً عام 2011. كرّت سبحة الانحناءات أمام عواصف تارة باردة وطوراً ساخنة: جلس مع حزب الله الذي يتهمه باغتيال والده وعدّه شريكه في إشاعة الاستقرار وسلّم له بأن سلاحه إقليمي فحسب. ذهب إلى انتخاب الرئيس ميشال عون بعدما تيقن من أنه بابه الوحيد إلى السرايا. سلّم بفرض استقالته عليه من الرياض، ثم كان الثمن المكلف في انتخابات 2018.

المصدر: نقولا ناصيف - الاخبار