في السجن الكبير، غزّة، لم يسلم الناس الذين هم تحت الف حصار من ألسنة "المنظّرين" الافتراضيين.. حاول البعض تصوير صرختهم، ومقاومتهم في مسيرات العودة على انها حركة "يائسة" فيما ذهب البعض الاخر الى اعتبارها حركة "استعراض".. كذلك كثر القوم الذين يعتلون فجأة منصة الوعظ والنصح، فانهالوا على اهل غزة بالارشادات حول كيف يجب ان يتحركوا وبأي اتجاه وبأي ادوات.. وايضا، انهمرت من كل حدب وصوب علامات الاستفهام والتعجب حول ماهية التحركات وطبيعتها.. هؤلاء جميعا، حتى حين تنطلق الصواريخ من غزة المحاصرة الحرة، ينهمرون بنفس الطريقة ويحاضرون في جدوى القتال.. هؤلاء، لن يتبدلوا ولن يبدلوا في واقع غزة والغزيين شيئا. وهم يعرفون ذلك جيدا لكن معرفتهم هذه لا تمنعهم من ركوب موجات "النقد والتنظير" طمعا بحصد جمهور من المعلقين وعيش تجربة "الادلاء بالرأي" في كل شيء وفي أي شيء.
غزة الحزن الابيّ لا تملك الوقت للرد على هؤلاء.. وغزة الوجع المكابر ليس فيها ترف خوض النقاشات العقيمة.. لذلك نراها في كل مرة، لا تلتفت لما يقال، لا تنتظر شيئا من أحد، لا تقبل بالتعاطف المر ولا ترضى بالشعارات الفارغة. تكمل طريقها الذي لا تملك سواه.. تمضي الى حيث المواجهة شهادة او اصابة.. فتكون او لا تكون!
لم يبق لها ما تخسره، لذا، وبدون ان تخوض غمار اليأس والاستسلام، وبدون ان تنكس الحلم بالحرية ولو لحظة، تقاتل بالمتاح من السلاح، روحا وحجرا وطائرة ورق مشتعل.. وصواريخ!
بأيّ عين ننظر صوبهم ناقدين، نحن المدججين بسلاح الشاشة و"حرية" التعبير والتنظير والتذاكي؟ بأي لسان نخاطبهم، وبدمهم رفعوا الكلام على الجراح ليكملوا حكاياتهم باللغة التي يتقنونها بالفطرة، وبالوجع الذين يخيط جراح الحصار.. بأي الكلمات نتوجه اليهم، ونحن الذين خارج اسوار مزاج معبر رفح، وخارج حدود تقنين الادوية والاغذية ومستلزمات الحياة بحدها الادنى.. المسألة هنا ليست في نقاش ما يجب على اهل غزة فعله، فهم يعرفون طريقهم اكثر منا جميعا. النقاش في مكان آخر، ماذا لو انشغلت غزة بخلافات داخلية، نؤججها بدون ان نشعر عبر شاشات افتراضية؟ ماذا لو سقطت في مشروع اقتتال داخلي، ندري ربما ان له مبرراته لكننا، واهل غزة، ندرك عواقبه التي اقلها منح العدو الاسرائيلي استراحة من القلق والرعب الذي تشكله له غزة؟
اليوم، كما في ايام كثيرة مضت، وكما في كثير من الايام الآتية، انهمرت الصواريخ من غزة المحاصرة وسجنت مئات المستوطنين في الملاجىء. اليس هذا، لحد ذاته، انتصار لدم غزة، لجرح غزة العزيز المكابر.. الا يستحق المحاصرون اليوم ان ننحني امامهم؟ ان نكف عن توجيه الملاحظات حول كل فعل يقومون به؟ ان نخبرهم ان صواريخهم، كما لحمهم الحي، هي طريقنا جميعا الى الحرية؟
غزة الاباء الجميل، المقاومة التي يحملها الرّضع حجرا الى جانب الرضاعة.. القدرة الاعلى على القتال، بالروح، في اسوأ الظروف.. الفرح الاسمى الذي يجمع الناس اكثر كلما احتدمت المواجهة.. البطولة التي لا فرق فيها بين امرأة ورجل، بين شاب وكهل.. العشق الفلسطيني الذي لا يعرف ضعفا، ولا ينهزم.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع