تطلّب الرئيس فؤاد السنيورة لتأليف حكومته (2008) 44 يوماً، والرئيس سعد الحريري (2009) 135 يوماً، والرئيس نجيب ميقاتي (2011) 139 يوماً، والرئيس تمام سلام (2014) عشرة أشهر وتسعة أيام، والحريري ثانية (2016) 76 يوماً. فماذا عن الحكومة المقبلة؟

إذا صحّ أن الأرقام هي أكثر ما يصحّ ويصلح للاعتبار وإجراء المراجعة السياسية، فإن الوقت لا يزال مبكراً للغاية على إبصار ثانية حكومات العهد النور. مع مغادرة الرئيس المكلف سعد الحريري إلى الرياض، تأكد مجدّداً تداخل الخارج بالداخل في الاستحقاق الحكومي. تالياً، بات على الحريري أن يقف هذه المرة ضد نفسه، على طرف نقيض مما قاله في حملاته الانتخابية بتحدّثه بحماسة عن «ودائع سورية» في البرلمان الجديد. الآن يعرف أنه سيعود من المملكة بـ«وديعة سعودية» مماثلة، يحملها إلى رئيس الجمهورية ميشال عون لإقناعه بتليين موقفه بإزاء تأليف الحكومة وتوزيع الحصص.

أكثر ما يعرفه الحريري أيضاً - وقد خبره في تأليف حكومة 2016 - أن الكلمة الفصل في المقاعد المسيحية لرئيس الجمهورية، شأن الكلمة الفصل في المقاعد الشيعية للرئيس نبيه بري وقيادة حزب الله، والكلمة الفصل في المقاعد الدرزية للنائب وليد جنبلاط. أما الكلمة الفصل في المقاعد السنّية، فأولياؤها هذه المرة كثيرون، أولهم الرئيس المكلف من غير أن يكون الوحيد.
في الأيام الأخيرة، عَامَ على سطح مداولات التأليف أن العقبة الجديدة المستعصية ليست سنّية مع أنها كذلك، وليست درزية مع أنها كذلك، بل مسيحية - مسيحية بين ثنائي تكتل لبنان القوي وحزب القوات اللبنانية الذي يطالب - بعدما كبرت كتلته النيابية - بزيادة تمثيله في الحكومة الجديدة، كي يتساوى وندّه على نحو لم يكونا كذلك في حكومة تصريف الأعمال. مع أن كليهما كبرت كتلتاهما النيابية أصلاء وحلفاء: 29 لتكتل لبنان القوي (التيار)، و15 لتكتل الجمهورية القوية (القوات). 
واقع الأمر أن «الوديعة السعودية» تقيم في هذا الشق من المشكلة: إقناع الرئيس المكلف رئيس الجمهورية بإعادة النظر في تقييمه حصة القوات اللبنانية في الحكومة الجديدة «بحسب ما يتمنى الأشقاء» (في المملكة).
ما أفضت إليه استشارات الرئيس المكلف في ساحة النجمة، أن الأفرقاء جميعاً يستعجلون الحكومة الجديدة، ويريدونها حكومة وحدة وطنية موسعة. إلا أن كلاً منهم يبصرها من منظار حصته معيار موافقته عليها. أدلى الجميع بدلوهم تقريباً، ما خلا رئيس الجمهورية الذي يقارب التأليف - وهو الشريك الدستوري الرئيسي فيه وصاحب التوقيع الأخير - على نحو مغاير بوضعه هو الآخر المعايير الواجبة:
أولها، أن مهلة التكليف غير مفتوحة، ويقتضي أن لا يصيب التأليف ما خبرته حكومات السنوات العشر الأخيرة، بإهدار الوقت على المشاورات واستمزاج الآراء وتبادل الاقتراحات والمراضاة حتى الوصول إلى صدور مراسيمها. يتفق والحريري على استعجال تأليفها، وقد يبدو الشهر مهلة طبيعية لكمّ من المشاورات، بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي، من شأنها إيجاد أوسع توافق عليها لإنجاح مهماتها في مرحلة ما بعد التأليف.
ثانيها، لا جدال في إصرار الرئيس على حصة له في الحكومة الجديدة، هو الذي يقرّر حجمها، منفصلة عن حصة تكتل لبنان القوي الذي هو حزبه في الحكم. الحصة التي يطلبها أربعة وزراء مسيحيين، إلى وزيرين غير مسيحيين، سنّي ودرزي في الغالب، يقايض بهما الحريري ووليد جنبلاط. بذلك، لا يبدو متصلباً حيال إصرار جنبلاط على ثلاثة مقاعد (درزيان ومسيحي إذا تعذرت المقاعد الدرزية الثلاثة)، ويكرر مقايضته مع الحريري في حكومة 2016 حينما نال الرئيس مقعداً سنّياً في مقابل مقعد مسيحي لرئيس الحكومة أحلّ فيه غطاس خوري، المرشح للعودة إلى المقعد نفسه.

يعود الحريري من الرياض بـ«وديعة سعودية» تدعى حصة القوات اللبنانية


ثالثها، شأن ما كانت عليه الحقائب السيادية الأربع في حكومة 2016، تبقى على حالها، من بينها وزارة الدفاع لرئيس الجمهورية، في مقابل حقائب المال لحركة أمل والداخلية لتيار المستقبل والخارجية والمغتربين لتكتل لبنان القوي. 
أولى بوادر تكريس القاعدة، منذ ما قبل الخوض في الاستحقاق الحكومي، تطبيع علاقتي رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي غداة الانتخابات النيابية، بتواصل الرئيسين برّي وعون، ثم غداؤهما في قصر بعبدا. تلاهما تأجيل الإفطار الرئاسي من الاثنين إلى الأربعاء، إلى ما بعد انتخاب برّي رئيساً للمجلس كي يجلس إلى جانب رئيس الجمهورية. رافق التطبيع تصويت معظم تكتل لبنان القوي لبرّي رئيساً للمجلس، في وقت بدا رئيس الجمهورية متجاوباً مع خطوتين راجت تكهنات شتى من حولهما: سيقترع نوابه ضد انتخاب برّي رئيساً للبرلمان ولن يوافق على وضع حقيبة المال لدى حركة أمل مجدداً. بيد أن شيئاً من ذلك لم يقع. منذ بُتت حقيبة المال لوزير رئيس المجلس، باتت حجر رحى دارت من حولها الحقائب السيادية الثلاث الأخرى، بأن ذهبت إلى الأفرقاء إياهم منذ حكومة الرئيس تمام سلام عام 2014.
على غرار خروج عون وبرّي من انتخابات الرئاسة عام 2016 على طرفي نقيض وكانا وجهاً لوجه فيها، إلا أنهما سارعا إلى طيّ صفحة الماضي، عاودا المحاولة بعد الانتخابات النيابية بإيصاد بابها مجدّداً. أمام برّي أربع سنوات جديدة في ولاية رئيس الجمهورية، وأمام عون أربع سنوات جديدة بالكاد بدأت في ولاية رئيس المجلس. كلاهما يحتاج إلى الآخر. لم تكن الطريقة التي أدارا بها فك أسر سعد الحريري في الرياض في 4 تشرين الثاني، أحدهما في قصر بعبدا والآخر في شرم الشيخ، سوى الدليل الساطع على اقتران آلية عمل المؤسسات الدستورية والاستقرار بدوريهما. فعلا الأمر ذاته على أثر حوادث الاشتباك بين التيار الوطني والحر وحركة أمل في كانون الثاني الفائت نجمت عن عبارة مشينة ساقها وزير الخارجية في حق رئيس البرلمان. 
رابعها، يتمسك رئيس الجمهورية بوضع نيابة رئاسة الحكومة في التكتل المسيحي الأكبر الذي هو تكتل لبنان القوي، ما يعني أن المنصب لن يكون، كالحكومة الحالية، برسم حزب القوات اللبنانية. يبدو أيضاً مقتنعاً بأن الحصة العادلة، الكافية، لحزب القوات اللبنانية ثلاث حقائب، من المرجح أن تكون نفسها في حكومة 2016، في مقابل أربعة وزراء لتكتل لبنان القوي، ناهيك بتوزير من خارج الثنائية المسيحية يطاول مقعدين أحدهما لتكتل نواب المردة بزعامة النائب السابق سليمان فرنجيه، وقد يحوز الحزب السوري القومي الاجتماعي على مقعد (مسيحي)، على أن ينتهي مآل المقاعد المسيحية الـ15 بمقعدين مسيحيين في حصتي الحريري وجنبلاط في ضوء تمسّك الرئيس بوزيرين غير مسيحيين.

المصدر: نقولا ناصيف - الاخبار