قبل 2005، كان السوريون قد عطّلوا الدستور والمؤسسات والقضاء، وأخذوا على عاتقهم توزيع الحصص على كل الناس في المجلس والحكومة والمؤسسات والأجهزة، وفقاً لمصالح النظام أو مصالح ممثِّليه في بيروت، وهم سوريون ولبنانيون. وعندما انسحب السوريون، دخل اللبنانيون في نزاع مرير على السيطرة، أي من أجل وراثة النفوذ السوري. لكنّ أحداً منهم – ولا حتى القوى الفاعلة في 14 آذار- لم يفكّر في استعادة الدستور والمؤسسات، لأنّ السباق على السلطة كان الأقوى!
يطرح كثيرون اليوم السؤال الآتي: من أين جاء هذا الكمّ المتزايد من الأعراف في تركيبة مؤسسات الحكم؟ ولماذا تتهافت الأطراف كلها على «ابتكارات» جديدة لتوسيع النفوذ، من دون ضوابط دستورية أو قانونية؟
الجواب هو أنّ لبنان، في ظلّ الفلتان السياسي الذي يعيشه، تتحكّم به مقولة «عنترت حالي وما حدا ردّني». فالقوي يفرض تطبيق الدستور والقوانين كما يريد، ويرسّخ الأعراف التي يريدها من دون أيّ عوائق. وأما الضعيف فيدفع ثمن ضعفه.
مثلاً، في بلد صغير محدود الموارد والطاقات، بات اعتيادياً الرقم الـ30 وزيراً ويجري التفكير في رفعه إلى 32 لمصالح سياسية. وفيما كان العرفُ يقضي بإرضاء رئيس الجمهورية بوزير أو أكثر- لأنه كان يفتقد إلى الكتلة النيابية الداعمة، فإنّ الرئيس ميشال عون يريد اليوم كتلة حكومية له، إلى جانب كتلته الحزبية.
وهذا الأمر سمح لرئيس الحكومة سعد الحريري بطلب حصّة مماثلة له، إلى جانب حصته من تيار «المستقبل». وفي اعتقاد البعض أنّ اعتماد منطق «الحصص الخاصة» لرئيسَي الجمهورية والحكومة، إضافة إلى الحصص الحزبية، سيبرِّر مطالبة رئيس المجلس بحصة مماثلة في الحكومة، إلى جانب حصته من وزراء حركة «أمل».
فليس مبرَّراً أن يكرِّس رئيسا الجمهورية والمجلس هذا العرف، من دون استثارة رئيس المجلس، الركن الثالث في الحكم. كما أنّ تكريس العرف بتكريس وزارة المال للشيعة سيصطدم بتكريس أعراف مماثلة لطوائف أخرى. وسيكون حيويّاً حسمُ الجدل بكشف مضامين مناقشات «الطائف» في هذا الشأن، وإلّا فإنّ كل وزارة ستصبح مُلكاً لطائفة أو حزب.
من الإشارات إلى ذلك مثلاً، رغبة تيار «المستقبل» في الاحتفاظ بوزارتي الداخلية والاتّصالات، وإصرار «التيار الوطني الحر» على التمسّك بوزارتي الخارجية والطاقة، لأنّ للتيارين مصالح «حيوية جداً» ترسَّخت في هذه الوزارات. وبعد ذلك يجري توزيع «الفضلات» على الآخرين!
والعرف الأكثر إثارة هو تركيب الحكومة سياسياً وفق نموذج المجلس النيابي، أي الـ4 بـ1. وبعد ابتكار هذا النموذج، جرى تركيب كتل اصطناعية من 4 نواب تبرِّر توزير البعض. فيما يجري التعاطي استنسابياً مع قوى لها أوزانها لأنّ كتلة كل منها مؤلفة من 3 نواب وما دون، كالكتائب مثلاً، أو لأنّ في كتلتها «كسوراً» من 3 نواب وما دون، كـ«القوات».
قبل ذلك، كان عون نفسه، الحريص على العرف القاضي بمنح رئيس الجمهورية حصة في الحكومة لضرورات الميثاقية وممارسة الحكم، قد أعلن ذات يوم أنّ الحصة التي يستحقها سلفه، الرئيس ميشال سليمان، في الحكومة هي صفر. ويتمّ تداولُ «فيديو» يقول فيه عون أمام وسائل الإعلام إنّ حصة رئيس الجمهورية هي 30 وزيراً، أي الحكومة كلها، وإنّ قوة الرئيس لا تأتي من كتلته الوزارية!
قبل ذلك أيضاً، وفي ظاهرة مشابهة، كان أركان تكتل «التغيير والإصلاح» قد وعدوا بإقرار فصل النيابة عن الوزارة كمبدأ إصلاحي عند أوّل انتخابات آتية. ويجري التداول بـ«فيديو» حديث تلفزيوني للنائب سيمون أبي رميا يجزم فيه أنّ الوزير جبران باسيل لن يعود إلى الحكومة إذا فاز بالمقعد النيابي في البترون!
قبل ذلك أيضاً، بقي عون وحلفاء له يعطّلون انتخابَ رئيسٍ للجمهورية على مدى عامين ونصف عام، لأنّ ظروفَ انتخاب عون لم تكن متوافرة. ووقع البلد في الشغور والخلل الميثاقي. وقد برّروا ذلك بأنّ الدستور يسمح بمقاطعة الجلسات. لكنّ «التيار» يطالب دائماً بوضع ضوابط زمنية لرئيس الحكومة المكلّف في عملية التأليف، فلا تبقى المهلة مفتوحة ويصاب البلد بالشلل!
إذاً، في جمهورية «الشاطر بشطارتو» أو «القوي بقواه»، أصبح الدستور وجهة نظر، ويتمّ اختراعُ الأعراف وتكريسُها وفق معيار المصالح التي يفرضها الأقوى على الأضعف. وبهذه الذهنية صُنِع قانون الانتخاب والمجلس النيابي، وتُصنَع الحكومات وتُسَيِّر أعمالها.
لكن ما يجري فوق الطاولة يختلف عمّا يجري تحتها. فجوهر الأزمة في لبنان اليوم هو النزاع المذهبي للسيطرة على القرار، بدعم القوى الإقليمية، إيران والسعودية خصوصاً، وخدمة لطموحات بعضها أحياناً. وفي المقابل، مخاوف الأقليات (المسيحيون والدروز تحديداً) من فقدان الدور والحضور.
ونتائج هذا النزاع ترجِّح حتى الآن غلبة الجانب الشيعي الذي يستفيد من وهج انتصارات عسكرية وسياسية حققها المحورُ الإيراني في سوريا والعراق والداخل اللبناني.
وأما الجانب السنّي فقد انتهت معركتُه الإقليمية بالفشل وتعرّض للعزل في الداخل لسنوات. ولذلك، هو وجد أنّ السبيل الوحيد لفكّ الحصار عنه هو عقد «صفقة واقعية» في لبنان مع الجانب الشيعي القوي.
عملياً، هذه الصفقة يريدها المحورُ الإيراني لأنها تصحّح «خطأ» انسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005. وقد انقاد الجميع إلى الصفقة تدريجاً على مدى 13 عاماً، حتى استقرّت السلطة على غالبية واضحة لحلفاء هذا المحور في المجلس النيابي، وهي ستترسّخ أيضاً في الحكومة وسائر المؤسسات والأجهزة.
وأما القوى المسيحية والدرزية فقد عادت إلى اللعب كما في المرحلة السورية، بين التشدُّد والمهادنة و»المداهنة»، لحماية الرأس أو للحصول على حصة شخصية أو سياسية من الغلّة.
وفي ظلّ الاهتراء المتزايد، من المؤكد أنّ يوماً سيأتي، ليس بعيداً، سيستدعي البحث في النظام اللبناني برمّته. وإذا كانت القوى كلها تهرب من الاستحقاق، إلّا الفريق الشيعي، لأنها خائفة من حصول التغيير في ظلّ انعدام التوازن، فالأرجح أنّ الجميع، الشيعة والسنّة والمسيحيين والدروز، سيضطرون إلى إعادة صوغ النظام، عندما تظهر معالم الكيانات والأنظمة الجديدة في الشرق الأوسط.
في هذه الحال، سترتسم سوريا الجديدة، والعراق الجديد، والممالك العربية الجديدة… وطبعاً ستظهر ملامح التسوية التي يجري طبخها في فلسطين. وسينكشف فيها موقع الأردن ودور مصر. ولا يمكن عندئذٍ أن يبقى لبنان على حاله.
يعني ذلك أنّ التهافت الحالي على السلطة في لبنان قد يوفّر لأصحابه المكاسب، وقد يساعد البعض على أن تكون له أوراقُ قوة في التسوية النهائية، لكنّ ذلك سيبقى مضبوطاً ضمن حدود، لأنّ المعطيات الإقليمية الكبرى هي التي ستتحكّم بعملية توزيع الأدوار والحصص على الجميع.