ما تزال الأزمات الحدودية بين لبنان وسوريا تتوالى فصولاً، وفي وقتٍ لم يجد الترسيمُ طريقه، تستمرّ التعدّيات على الأراضي اللبنانية، واحتلال مساحات شاسعة من قبل السوريين.
وجديد هذه المشكلات هو احتلال أهالي بلدة قارة السورية لنحو مليون متر مربّع من أراضي جرود رأس بعلبك الزراعية، ما فتح الباب على موجة من الإستنكارات، وقد يؤدّي الى إشكالات تصل الى حدّ الإشتباكات إذا لم تبادر الدولة اللبنانية الى التدخّل وإعادة الحقّ الى أصحابه.
بدأت مشكلة الأراضي الحدوديّة، وفي رأس بعلبك تحديداً، منذ قيام دولة لبنان الكبير في 1 أيلول 1920، واستمرّت مع كل أزمة كانت تنشأ وتشرّع أبواب الوطن للغرباء، وارتفع منسوب أزمة الأراضي المتجدّدة في رأس بعلبك عام 1976 عندما دخل الجيش السوري بشكل رسمي الى لبنان، يومها تمركز في جرود رأس بعلبك الواسعة وعلى قمم الجبال، فدخل المزارعون السوريون من بلدة قارة واستغلّوا الأراضي على الحدود، والتي تعود ملكيّتُها الى أهالي الرأس.
ويروي الأهالي أنّ «هذه الأراضي زرعها سوريون من بلدة قارة بالأشجار المثمرة وأبرزها شجر الكرز، فيما كان أجدادُنا يستثمرونها منذ عام 1937».
إذاً، شكّل عام 1976 تاريخاً مفصليّاً في وضع اليد السورية على نحو مليون متر مربع من أراضي رأس بعلبك، لكن بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1990، طالب أهالي الرأس بأملاكهم. وفي عام 1992، حصل إشكال كبير بينهم وبين أهالي قارة، واستطاع أهالي رأس بعلبك من إخراج السوريين بالقوّة، وقد تدخّل الدرك يومها ونظّموا محاضر بما حصل، واستطاع الأهالي إستثمارَ أرضهم.
لكنّ الإشكالات عادت وتجدّدت بعد عام 2011، تاريخ إندلاع الثورة السورية، ودخول «داعش» الى الجرود واحتلالها، فسيطر المزارعون السوريون على الأرض. وبعدما حرّر الجيش اللبناني الجرود العام الماضي في معركة «فجر الجرود»، صعد الأهالي الى الجرود ليتفاجأوا بأنّ السوريون إحتلوها مجدّداً واستثمروها.
هذا الواقع الجديد ترك تردّداته في رأس بعلبك، تلك البلدة المسيحية في قضاء بعلبك، والتي عاشت تحت رهبة الإرهاب لسنوات، وقد تحرّك أهلها منذ أيام لاسترجاع أراضيهم وتحريرها من أهالي قارة، وتدخّل الجيش اللبناني لمنع حصول مواجهات لكي لا يتفاقم الوضع.
وفي السياق، يؤكّد رئيس بلدية رأس بعلبك دوريد رحال لـ«الجمهوريّة» أنّ «أهالي الرأس يملكون مستندات تثبت ملكيّتهم للأراضي المتنازَع عليها».
ويوضح أنّ «المشكلة كبيرة وتتنامى، لكننا لن نترك أرضنا وسندافع عنها، ونطالب الدولة اللبنانية أن تكون عادلة مع أبنائها». ويضيف: «إذا كان هناك فعلاً نزاعٌ حدودي على تلك الأراضي فيجب تجميد العمل فيها لا أن يستغلّها السوريون فيستثمرونها».
ويشدّد رحال على أنّ «المجلس الأعلى اللبناني السوري، واللجان المشترَكة بيننا التي اجتمعت لم تستطع فعلَ شيء، وبالتالي نحن نتبع الآن الطرق الديبلوماسية لحلّ قضيتنا وسنجول على المسؤولين لطرحها، وإذا لم ننجح، سنستعمل كل الوسائل المتاحة لأنّ أحداً لن يستطيع أخذ متر واحد من أرضنا».
بعد تحرير جرود رأس بعلبك من «داعش»، ظهر هولُ الأزمة بشكل أكبر، خصوصاً أنّ الحاجز اللبناني الذي كان موضوعاً في وادي مرطبيا كان يمنع السوريين من الإقتراب، لكنّ الوضع العسكري قد تغيّر حالياً. ويروي الأهالي أنه سُمح للسوريين بالدخول الى عمق الجرود، وحصاد مواسمهم التي هي حقّ للبنانيين بدل منعهم من الإقتراب.
ويملك الأهالي عدداً كبيراً من الخرائط الرسمية التي تُظهر ملكيّتهم للأراضي، خصوصاً أنّ ما يُعرف بـ«مقلب المياه» يُظهر أنه داخل الأراضي اللبنانية.
من جهته، يؤكد الأستاذ الجامعي والمتخصّص في قضايا الحدود الدكتور عصام خليفة لـ«الجمهورية» أنه «يملك الخرائط التي تؤكّد ملكية هذه الأراضي في جرود رأس بعلبك لأهالي الراس».
ويلفت الى أنها «تقع ضمن الحدود اللبنانية، وهناك إثباتاتٌ شفهيّة أيضاً تدلّ على ذلك، خصوصاً أنّ الأهالي يخبرون أنّ جدودَهم كانوا يزرعونها، وهذه الإثباتات الشفهيّة تضاف الى الإثباتات الورقية والمستندات التي يملكونها».
ويوضح خليفة أنّ «الإثباتات كثيرة، فالقرار الذي صدر عن المفوض الفرنسي غورو في 31 آب 1920 والذي أنشأ بموجبه لبنان الكبير نصّ على ضمّ قضاء بعلبك اليه، وقضاء بعلبك بحدوده العثمانية يضمّ هذه الأراضي المتنازَع عليها».
لا ينكر أحد مدى عمق المشكلة اللبنانية السورية الحدودية، والتي ما يزال النظام السوري يرفض ترسيمَها، وقد حاولت قوى «14 آذار» بعد عام 2005 الدخول في مفاوضات مع النظام السوري لترسيم الحدود لكنه كان يرفض دائماً.
وعلى رغم الأمنيات بحلٍّ سريع لهذه الأزمة الحدودية، إلّا أنّ مرجعيات بعلبك لا تستبشر خيراً، إذ يؤكّد راعي أبرشية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك المطران الياس رحال لـ«الجمهورية» أنّ «الأراضي التي احتُلّت هي ملك أبناء رأس بعلبك، وقد احتُلّت منذ الدخول السوري الى لبنان».
ويشدّد على أنّ المطالبات مستمرة، محمِّلاً المسؤولية الى «الدولة اللبنانية التي تهمل جدودها وأرضها ولا تتدخّل لتبيان الحقّ».
ويلفت الى أنّ «الأمل بتوصّل الى اتّفاقٍ ليس كبيراً، لأنه لا نتيجة مع السوريين الذين يسيطرون على أرض ليست لهم».
ارتاحت رأس بعلبك والقرى الحدودية من خطر «داعش» والإرهاب، لكنها لم ترتح من المشكلات المستمرّة التي تلاحقها، في حين أنّ الدولة اللبنانية غائبة عن مشكلة كهذه، وكأنّ الأرض ليست لها، بينما المعروف أنّ الأرض هي أغلى ما يملكه المواطن والسيادة لا تتجزّأ.