درَجت العادة أن يودّع رئيس الجمهورية ولايته بإصدار مرسوم تجنيس يَمنح فيه الهوية اللبنانية لعدد من المستحقّين والذين قدّموا خدمات باهرة للبلاد، عدا عن بعض العائلات التي تنتظر هذه اللحظة لتستعيدَ حقوقاً لها. لكنّ المرسوم الجديد صَدر قبل انتهاء الثلث الأوّل من الولاية الرئاسية، ما طرَح أسئلة إزاءَه شكلاً وتوقيتاً ومضموناً، ولعلّ أبرزها: مَن ورَّط مَن بهذا المرسوم ؟!
رغم الاستعدادات الجارية لورشة تأليف الحكومة الجديدة والسعي الى تركيب «البازل» الحكومي فقد فرَضت مجموعة الإشاعات التي سرَت كالنار في الهشيم نفسَها على الأولويات الأخرى، خصوصاً بعدما تحدّثت التسريبات عن صدور مرسوم جديد عن رئيس الجمهورية وقّعه رئيس الحكومة ووزير الداخلية يَمنح الجنسية اللبنانية لشخصيات وعائلات من جنسيات عربية وغربية مختلفة معظمُها من الفلسطينيين والسوريين، الأمر الذي أثار موجةً من الغضب واجهَتها المراجع المعنية بكثير من الصمت والتردّد قبل ان يكتشفَ اللبنانيون ظهر امس انّ المرسوم صدر في 11 أيار الماضي وحملَ الرقم 2943 وليس من السهل على أيّ كان من النواب الراغبين بالطعن به او السياسيين والحزبيين الحصول عليه لمعرفة هوية المستفيدين منه والظروف التي أملت إصدارَه.
فقبل ان يتكشّف رقم المرسوم وتاريخ توقيعه امس، كان الجدل قائماً حول مدى «دستوريته» وعمّا إذا كان قد صَدر قبل ان تدخلَ الحكومة مرحلة تصريف الأعمال بعد استقالتها الإلزامية في 21 ايار الماضي أم قبلها. فلو كان بعدها لشكّلت الخطوة مخالفة دستورية كبيرة لمضمون «المادة ٦٤» من الدستور، فهي واضحة وصريحة ولا تقبَل ايّ جدل، ولا تسمح للحكومة المستقيلة بمِثل هذه الخطوة الدستورية. فالحكومة وبموجب هذه المادة «لا تُمارس صلاحياتها قبل نيلِها الثقة ولا بَعد استقالتها او اعتبارها مستقيلة الّا بالمعنى الضيّق لتصريف الاعمال».
وقالت «الفقرة 5» من المادة نفسِها ايضاً: «في حال اعتبار انّ ثمّة قراراً إدارياً يدخل في نطاق الاعمال التصرفية التي تقضي الضرورة اتخاذه في خلال فترة تصريف الاعمال ايداعَ مشروع القرار رئاسة مجلس الوزراء للاستحصال في شأنه على موافقة استثنائية لفخامة رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء» وهو ما يؤكّد بالمعنى القانوني والدستوري للخطوة كأنّه «تهريبة».
أمّا وقد تجاوزت البلاد في الساعات الأخيرة هذه العناصر من الأزمة والتي كان مسموحاً الجدل في شأنها قبل ان يتّضح تاريخ صدور المرسوم وتوقيعه، كانت البلاد على موعد مع أولى التسريبات الخاصة بالمرسوم عندما نشَر النائب نديم الجميّل على موقعه الشخصي، ومِن بعدِه عدد من وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية لائحةً إسمية بـ«الفائزين» بالجنسية اللبنانية والتي شكّلت جزءاً من المرسوم الذي تبيّن لاحقاً أنه قد أُعِدّ وتمّ ترتيبه قبل نشرِه في موعد يلي الانتخابات النيابية في 6 أيار الماضي مخافة ان يثيرَ ما أثاره لاحقاً من ردّات فعلٍ سلبية هدَّدت صورة العهد، وشكّلت تناقضاً فاضحاً مع سلسلة من المواقف التي اطلقَها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ومعاونوه طوال السنوات والأشهر الماضية، وتحديداً رئيس التيار الوطني الحر وزير الخارجية جبران باسيل الذي جالَ في العالم عبر مؤتمرات الطاقة الإغترابية داعياً المنتشرين الى استرداد هويتهم اللبنانية متهكّماً ممّن وهَبوا الجنسية لغير لبنانيين قبل ان يشكّل المرسوم الجديد عملاً مماثلاً لكلّ مَن تعرّضَ لهم في حملاته الخارجية والإنتخابية.
وعليه، فقد توقّفت مراجع سياسية وحزبية وقانونية امام توقيت المرسوم وشكله ومضمونه، فسجّلت الملاحظات الآتية:
ـ أوّلاً، في التوقيت: جاء تسريب ما قال به المرسوم في أسوأ توقيت، نظراً الى مضمونه الذي شكّلَ نقزةً كبيرة من وجود مخطط تورّط فيه نواب أعضاء في لجنة المال والموازنة النيابية ووزراء لمجرّد أنه منَح الجنسية لمسؤولين سوريين ورجال اعمال كبار من أنصار النظام يمكن ان يكونوا على لائحة الذين تعرّضوا للعقوبات الدولية التي فرَضتها الولايات المتحدة الأميركية وحكومات خليجية وغربية مختلفة عقبَ الغارات بالأسلحة الكيماوية، او انّهم ارتكبوا جرائم في تركيا، بالإضافة الى آخرين من جنسيات مختلفة ومِن بينهم ايرانيون هاربون من بلدانهم. وما زاد في الطين بلّة أنّ المرسوم تلاقى في نتائجه السلبية المباشرة والطعن الذي تقدّم به نواب حزب الكتائب وزملاء لهم، بمضمون المادة «49» من قانون الموازنة العامة لسنة 2018 التي سَمحت لغير اللبنانيين بالإقامة الدائمة لسنوات لقاء شراءِ مسكنٍ لهم في بيروت او خارجها، في وقتٍ كان البلد يضج بالكشف عن القانون الرقم 10 في سوريا الخاص بإثبات ملكية السوريين أراضيَهم قبل مصادرتها في مهلة قصيرة ومحدّدة، لِما له من انعكاسات سلبية وخطيرة على ملف النازحين السوريين في لبنان، الذين ليس في إمكانهم المراجعة لدى الدوائر الأمنية السورية قبل الإدارية والعقارية بهذا الشأن.
ـ ثانياً، في الشكل: فقد صَدر المرسوم وهو يحمل عيباً كبيراً لا يَخفى على عالِم بأبسط القوانين المرعية الإجراء التي تمّ تجاوُزها. كذلك صَدر من دون ان يكون لأيّ جهاز من أجهزة الرقابة المسبَقة أيُّ رأيٍ في الأسماء المستفيدة من الجنسية، ويتقدّمها الأمن العام صاحب الصلاحية والذي عبّر مديره العام اللواء عباس ابراهيم عن المفاجأة التي تسبَّب بها تسريبُ المعلومات في شأن هذا المرسوم، من دون ان يكون على عِلم به، وهو ما دفعَه الى طلب تجميد مفاعيله ومنعِ أيٍّ كان من الاستفادة منه الى حين الانتهاء من التحقيقات التي سيُجريها في ملفات الأشخاص إسماً فإسم في الداخل والخارج، حيث البلد الأصلي لكلّ منهم من الهند في شرق آسيا إلى ايران ودول اوروبية وأفريقية الى الأردن وسوريا وفلسطين.
ـ ثالثاً، في المضمون: تقول المراجع عينُها إنّ المرسوم عزّز المخاوف من تورّطِ بعض المسؤولين من مواقع مختلفة حكومية وسياسية وحزبية ومالية في توزيع هذه الجنسية لقاء بدلٍ مالي خيالي لمجرّد أنّها ستشكّل بوّابة عبور للمستفيدين منها لتجاوُزِ العقوبات الدولية والإقليمية والمحلّية المفروضة عليهم، عدا عن احتمال أن تشكّلَ سبباً لتوتّرات ديبلوماسية بين لبنان ودول تُقاضي بعضاً منهم وتلاحقهم بفِعل قيامِهم بأعمال إجرامية مشينة، فضلاً عن تعطيل الملاحقة القضائية، إنْ وجِدت، عبر الأجهزة الدولية كالإنتربول وغيره من المنظمات الإقليمية والدولية الناشئة في الإتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي وهيئات دولية مختلفة.
والسؤال المطروح في هذا الخضمّ: «مَن ورَّط مَن بهذا المرسوم؟» وبمعزل عن الجواب المفقود حتى الآن، يبقى ما هو ثابت حتى اليوم أنّ أولى اللوائح التي نشِرت كانت قد تسرّبت من وزارة الداخلية للإساءة الى صاحب الحقيبة الذي تعرّض لحملةٍ حزبية قاسية، وقد لوحِظ شعار الوزارة في أعلى الصفحات التي سرّبت للإيحاء بأنّ وزير الداخلية اقترَح هذه الأسماء التي لم يؤخَذ بها جميعاً، بدليل عدم وجود بعض الأسماء المدرَجة فيها في متن الصيغة النهائية للمرسوم الذي خضَع للتعديل من دون إرادته أو بالتفاهم معه.
وإلى أن يتوافر أيّ جواب مقنِع يبقى واحدٌ منها يتصل بما يجري من تحضيرات لمرحلة إعادة إعمار سوريا بالتعاون بين «أبطال الجنسية» الجُدد والمسؤولين اللبنانيين المتورّطين بالمرسوم.