منذ إعلان مصرف لبنان نهاية عملية استبدال سندات اليوروبوندز التي حصل عليها من وزارة المال بطريقة الاستبدال أيضاً، بدأت أسعار هذه السندات تسجّل انخفاضاً ملموساً. أكثر من ثلثي هذه السندات تراجع سعرها إلى أقل من 90 دولاراً، وبعضها وصل إلى 79 دولاراً. العائد على هذه السندات بات يراوح بين 8% و9.5%، ما يعكس ضعف الطلب عليها.

ما هي هذه السندات؟ لماذا لم تعد مرغوبة؟ كيف يؤثّر هذا الأمر بالدين العام؟ إلى ماذا يؤشّر هذا الضعف؟

سندات اليوروبوندز هي واحدة من الأدوات التي تستعملها الدولة اللبنانية للاستدانة. الخزينة اللبنانية تصدر سندات الدين مقابل كل دولار تستدينه. ومعروف أن هذه السندات تسجّل في الأسواق الدولية (اللوكسمبورغ) وتخضع لشروط محدّدة تحمي حامليها من أي خسارة قد يتعرضون لها بسبب انخفاض سعرها. والدولة اللبنانية بحاجة للاستدانة بالعملة الخضراء لتمويل عجزها السنوي في الموازنة العامة الذي يزيد على 5 مليارات دولار سنوياً، فيما يحتاج مصرف لبنان إلى دولارات يضعها في احتياطاته بالعملات الأجنبية لمواجهة أي طلب على الدولار قد يؤدي إلى تغيير سعر صرف الليرة. كذلك يستعمل هذه الاحتياطات لخلق «ثقة» تساعده على استقطاب المزيد من الدولارات.

الطلب على الدولار مصدره الأساس هو العجز السنوي في الميزان التجاري. لبنان استورد بما قيمته 19.5 مليار دولار في 2017، وصدّر بما قيمته 2.8 مليار دولار، أي إن عجزه بلغ 16.7 مليار دولار. يحتاج لبنان إلى 16.7 مليار دولار لتغطية قيمة الواردات، وبينها واردات المشتقات النفطية لتشغيل معامل الكهرباء.

يحصل لبنان على الدولارات بطرق مختلفة، أبرزها تحويلات المغتربين والاستثمارات الأجنبية المباشرة، لكنّ هذين العنصرين لا يكفيان لتغطية حاجات لبنان من الدولارات، فيلجأ إلى استعمال أدوات مثل سندات اليوروبوندز للاستدانة بالعملة الخضراء.

بهذه الخلفية، استدان لبنان نحو 31 مليار دولار مقابل سندات معروضة في السوق الدولية. هذه السندات لديها مرونة التبادل، أي شرائها وبيعها. الذين اشتروا هذه السندات قد يحتاجون إلى سيولة، أو قد يرون فرصة للربح من عمليات البيع والشراء، لذا ليس من الضرورة أن تستقرّ هذه السندات بيد جهة ما، بل قد تنتقل من جهة إلى أخرى.
أما التبادل في السندات المطروحة في السوق العالمية، فهو لا يتعلق بحاجة حاملها إلى السيولة فقط، بل هو ينظر إلى درجة المخاطر التي تترتب عنه نتيجة شراء هذه السندات، وينظر أيضاً إلى السندات المربحة أكثر من غيرها.

في حالة السندات اللبنانية بالعملات الأجنبية (يوروبوندز) المصنّفة ضمن سندات الأسواق الناشئة، فإن درجة المخاطر مرتفعة نسبياً، ما يعني أن حامليها يميلون إلى التخلّص منها بسرعة. هذا بالضبط ما يحصل مع سندات اليوروبوندز. ففي الفترة الأخيرة، بدأت أسعار هذه السندات تنخفض، ما يعني تلقائياً ارتفاع العائد عليها لتعويض الخسارة في قيمتها. 
واللافت بحسب مصادر مطلعة، أن صناديق التحوّط التي تشتري هذه السندات، ترى فيها فرصة على المدى القصير لتحقيق ربح سريع، أي إنها تقوم بالمضاربة على السندات، آملة تحسّنها وبيعها. يربط بعض الصناديق قراراته بما يحصل سياسياً في لبنان حيث يتوقع أن تتشكّل حكومة فتترك انطباعاً بأن الوضع مستقر. ببساطة، ستنخفض درجة المخاطر وترتفع أسعار السندات. لكن من يدري إلى متى تبقى درجة المخاطر منخفضة؟

يأتي توجّه المضاربين نحو السندات اللبنانية برغم انخفاض الفائدة على أسعار السندات الأميركية، ما يثير سؤالاً عمّا إذا كان المضاربون يرون في لبنان استقراراً أو مرحلة قصيرة يمكن الاستفادة منها لتحقيق ربح سريع.
وفي الواقع، الأوضاع المالية والاقتصادية في لبنان غير مستقرّة، بل إن مصرف لبنان استشرف هذا الأمر ونفذ عملية استبدال بين سندات اليوروبوندز التي حصل عليها من الدولة اللبنانية مقابل شهادات إيداع كانت المصارف تحملها في محفظتها، ما أدّى إلى إطالة آجال استحقاقات الدين بالعملة الأجنبية. تخلص مصرف لبنان من عبء المديونية بالدولار لعام 2018، لكنه سيواجه المشكلة نفسها في السنة المقبلة. الحاجات بالدولار ستتزايد في 2019، ما يعني أن الخيارات تضيق من حوله. لديه خيار أن يلجأ مجدداً إلى عمليات استبدال كالتي نفذها أخيراً (مقايضة سندات بالدولار تصدرها الدولة مقابل سندات بالليرة في محفظته ثم عرض سندات الدولار للبيع في السوق) أو القيام برفع سعر الفائدة على الدولار والليرة علناً.
لا يغفل المعنيون أن عمليات الاستبدال تؤدي ضمناً إلى رفع أسعار الفائدة موضعياً. لكن الثقة بنجاح مثل هذه العمليات ضعيف جداً، إذ إنها ترتّب على مصرف لبنان أعباءً كبيرة سيكون مضطراً إلى تحملها مثل الضغط على المصارف للقبول بشراء السندات الدولارية منه. في المقابل، يبدو خيار رفع أسعار الفائدة أمراً أكثر شفافية، وهو أمر نصح به صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير. 
أسعار الفائدة الضمنية التي يمكن استخراجها من عملية الاستبدال، تقدّر اليوم بنحو 15% على الليرة و9.5% على الدولار، ما يعني أن رفع أسعار الفائدة العلني لن يكون أقل من ذلك. الخيارات تضيق إلى هذا المجال. رفع أسعار الفائدة يعني توسيع الدين العام وزيادة أكلاف الاقتصاد، ما يزيد المخاطر في 2019 إلى حدود لم يبلغها لبنان من قبل. الأسواق تتناقل اليوم همساً عن شكوك بقدرة لبنان التمويلية رغم كل إجراءات مصرف لبنان وهندساته وعملياته. زيادة المخاطر تعني خفض تصنيف لبنان، وهو أمر لمّحت إليه «موديز» في تقريرها الأخير عن لبنان، وإن كانت ترى أن مصدر المخاطر الأكبر هو مجموع النشاطات السياسية والأمنية والاقتصادية في لبنان والمنطقة.

المصدر: محمد وهبة – الأخبار