حتى اللحظة لا تستند الاجواء الايجابية التي أشاعها المسؤولون الكبار، وتحديداً الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري، الى أيّ مُعطى عملي وواقعي ملموس.
قد يكون الدافع وراء إشاعة هذه الاجواء التفاؤلية جملة معطيات ابرزها:

-1 الوضع المالي الخطير الذي بدأ يهزّ ركائز البلد. فالمسؤولون الكبار، كما السفارات الكبرى المتابعة للوضع اللبناني، يتحدثون بقلق بالغ عن المستقبل الخطير للواقعين المالي والاقتصادي. وبالتالي، فإنّ اشاعة الاجواء التفاؤلية تهدف الى منع حصول اي ضغط اضافي على الوضعين المالي والاقتصادي في مرحلة التفاوض، وصولاً للاتفاق على الولادة الحكومية في ظل العقد التي ما تزال موجودة.

-2 توجيه رسالة الى الخارج مفادها انّ الحكومة ستولد على رغم من العقبات المطروحة، وانّ هذا الخيار حتمي ولن يكون بعيد المنال زمنياً، وان الخطر المالي والاقتصادي والذي تحذّر منه بقوة العواصم الكبرى يشكل حافزا داخليا لتذليل العقد وتدوير الزوايا، وليس أبداً نزاعاً حاداً ومفتوحاً الى اجل غير مسمّى.

-3 ان يكون الحريري يمهّد لإطلاق حركة التفاوض الجدي بخلق اجواء ايجابية ملائمة تمهّد بنحو افضل للتقريب بين وجهات النظر وانجاز الحلول، وبالتالي اعلان ولادة الحكومة.

وفي مؤشر واضح الى انّ الامور ما تزال في بداياتها في مرحلة ما قبل الشروع في المفاوضات، هو ان يحصل لقاء على مستوى رئيس الجمهورية ورئيسي المجلس النيابي والحكومة من دون التطرق الى الملف الحكومي، ولو انّ الموضوع الاساسي لهذا اللقاء الرئاسي يتعلق بالجنوب. فهذا يعني بكل وضوح ان التفاوض لم يبدأ بعد.

صحيح انّ الحركة في الكواليس لم تبدأ بعد، وهي قد لا يدشّنها الحريري قبل عطلة عيد الفطر نهاية الاسبوع المقبل، الا ان الحركة لجس نبض الحريري بعد عودته من زيارته للسعودية اشارت الى انه سينطلق في مشاوراته على اساس «رسم تشبيهي» للحكومة يرتكز على التوازنات الوزارية القائمة حالياً، وتحديداً في الموضوع المسيحي، بحيث يجري إسناد أربع حقائب الى «القوات اللبنانية». اما مسألة نيابة رئاسة الحكومة فستخضع للتفاوض، وربما للمقايضة، طالما انّ رئيس الجمهورية حسم قراره بأن تكون من حصته.

في كل الحالات لا بد من الاستنتاج انّ المناخ اختلف بعد زيارة الحريري الاخيرة للسعودية. وعلى رغم انّ رئيس الحكومة المكلّف قال انه لم يَلتق أي مسؤول سعودي وانّ زيارته كانت للراحة وللقاء عائلته، الّا انه لا بد من الأخذ بملاحظات عدة. أوّلها انّ المواقف التي صدرت عن رئيس حزب «القوات اللبنانية» ومسؤوليه خلال وجود الحريري في السعودية استمرت على الدرجة نفسها، وبقيت المطالب هي هي.

وثانيها انّ الحريري وبعد عودته بدأ يفكر بمفاوضات انطلاقاً من التوازنات الحكومية الحالية. وثالثها انّ رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل استعاضَ عن خطاب المواجهة الذي كان قائماً بتوجيه رسالة ايجابية خلال ترؤسه خلوة تكتل «لبنان القوي» في زحلة. ذلك انه لا بد من ان يكون قد حصل تواصل سريع بين الحريري وباسيل عقب عودة رئيس الحكومة المكلف من السعودية. وبادلت «القوات» إيجابية باسيل بكلام ايجابي ايضاً لاقتناعها ربما بأنّ الوصول الى الحصة التي تطلبها يستوجب إرساء مناخ ملائم مع رئيس الجمهورية.

لكن هذه المؤشرات، على أهميتها، ليست الوحيدة في هذا الاطار. ذلك انه لا بد من قراءة الموقف الشيعي ايضاً بشيء من التمعن. فرئيس المجلس النيابي نبيه بري تخطى بسرعة عدم التصويت «القواتي» له، وذهب مجدداً الى ملاقاة «القوات» والتمسّك بموقفه الداعي الى عدم تجاوز موقفها لا بل معالجته بالحوار والمفاوضات.

وموقف بري هنا له علاقة بإعادة تثبيت توازنات جديدة داخل الحكومة في وجه «التيار الوطني الحر».
وفي السابق، وخلال التجاذبات القوية التي شهدتها الحكومة المستقيلة حول اكثر من ملف، وخصوصاً ملف تلزيم بواخر إنتاج الكهرباء، لمسَ بري أهمية ترتيب معادلة قادرة على التوازن مع تحالف «التيار الوطني الحر» و«المستقبل» داخل السلطة التنفيذية.

اضف الى ذلك فإنّ «حزب الله»، الذي سيدشّن من خلال مشاركته في الحكومة العتيدة مرحلة سياسية جديدة من العمل الحكومي، يريد عدم تجاوز اي مكون أفرزته الانتخابات النيابية بما فيه مكون «القوات اللبنانية». لكنّ موقف «الحزب» الذي يتقاطع مع موقف بري ينطلق في مقاربته من زوايا اخرى، فهو عمل وما يزال على تبريد الاجواء بين وليد جنبلاط و«التيار الوطني الحر» وايضا بين سليمان فرنجية و«التيار»، بعد ان نجح في تقريب المسافة بين بري وباسيل.

والفارق واضح ما بين مواقف اليوم والمواقف التي سبقت ولادة الحكومة المستقيلة.
ففي السابق كان هنالك تحفّظ لدى «حزب الله» عن الحصة التي أعطيت لـ«القوات اللبنانية» في مقابل خطاب اعتراض «القوات» على إشراكه وعلى سياسته. لكن المواقف تبدّلت اليوم.

والسؤال البديهي: طالما انّ الرؤيا إتّضحَت لدى الحريري بعد عودته من السعودية، فلماذا الانتظار حتى ما بعد عطلة الفطر لإدارة محركات التفاوض؟ ولماذا هذه البرودة وهذا التمهّل قبل الشروع في التواصل المباشر مع القوى والاحزاب، خصوصاً تلك التي تتمحور حولها العقد؟

وفي ملاحظات البعض انّ الحريري ذهب الى السعودية مستعجلاً التشكيل، وعاد منها متمهّلاً متروياً ولو انه يحمل عبارات التفاؤل والايجابية. وربما هذا ما دفع بهؤلاء الى التساؤل عمّا اذا كان الحريري قد التقى مسؤولين نَصحوه بالتروي وشراء الوقت، ما دفعه الى عدم الاعلان عن هذه اللقاءات.

وحسب أنصار هذا المنطق فإنّ ثمة خطوات كبيرة يجري العمل عليها على مستوى المنطقة، وبالتالي فإنّ انتظار حصول هذه الخطوات سيثبت معطيات جديدة تتأثر بها عملية تأليف الحكومة.

وطالما انّ الزمن هو زمن صيام رمضان وانّ عيد الفطر لم يعد بعيداً، فلا احد سيرفع صوته مطالباً بالاستعجال، ما يجعل كسب الوقت قابلاً للحصول من دون إثارة التوجس لدى اي من الأفرقاء.

ففي المنطقة ملفات كبيرة تبدأ بالاتفاق النووي ومصير الكباش الاميركي ـ الايراني والتفاهمات الجديدة على الساحة السورية ومشروع ترامب حول القدس وترتيب تصوّره حول الملف الاسرائيلي ـ الفلسطيني، ملفات كبيرة تزدحم بها الايام المقبلة، وتدفع الى نتائج وتأثيرات كبيرة كتلك التي يعاني منها الاردن. وبالتالي، هل انّ برودة الحريري وتمهّله لهما علاقة بنصيحة ما سمعها حول انتظار تطورات ما من المفترض ان تحصل ومن مصلحته انتظار حصولها؟

المصدر: جوني منير - الجمهورية