وفي اليوم الثالث لشهادته، أمام المحكمة الدوليّة، خرج اللواء رابحاً. قرّر الذين أرادوا، قبل يوم، أن يوجّهوا إليه أسئلة أن يصمتوا، أو بالأحرى ألزمهم بالصمت. قبل ذلك، قال جميل السيد، على مسامعهم، أنّه لن يحتمل وجوده معهم في قاعة واحدة. لم ينس ما فعلوه به. القاضي يتفّهم «الألم». رُفعَت الجلسة. ما فعله السيّد، بشهادته التاريخيّة، كان ضربة معلّم... فانسحاب تكتيكي
حصل النائب جميل السيّد على ما أراده، وربّما أكثر، مِن ذهابه إلى المحكمة الدوليّة (الخاصة باغتيال رفيق الحريري وآخرين). ذهب كشاهد. ثلاثة أيّام كان خلالها أقرب إلى قاضٍ، فيما بدا القضاة أشبه بمتابعين جيّدين، وعبثاً كان يُحاول رئيس الجلسة، القاضي ديفيد ري، إخفاء إعجابه بالسيّد. قبل اليوم الأخير، ليلاً، وبعد خلوة مع نفسه، حسم أمره وقرّر: لن أجيب غداً على أسئلة ممثّل الادّعاء ولا محامي «المتضررين» محمد فريد مطر (الذي قاد، عام 2007، العملية القانونية التي أدّت إلى تنحية قاضي التحقيق العدلي الياس عيد، لمنعه من إخلاء سبيل السيد). جاء موعد الجلسة، حضر السيد، وفي سياق كلامه، أخبر المحكمة بقراره. انتهى الأمر: «أنا غير مستعد لأن استمع لأسئلة مِن طرف ساهم في تغطية شهود الزور ضدّي، ومن جهة ساهمت في تنحية قاضٍ كان على وشك أن يطلق سراحي... لديّ الحق في الخصومة مع هؤلاء. لن أستطيع أن أبقى معهم في قاعة واحدة. أقسم، يا حضرة القاضي، بشرفي العسكري أنّ هذه الفكرة أتتني فقط مساء أمس». هو الآن نائب، إنّما ما زال هو اللواء، العسكري (الأمني) أولاً وأخيراً. كانت هذه مفاجأة الشاهد، في اليوم الأخير، إنّما غير الأخيرة.
في اليومين الأوّل والثاني، قال الشاهد، مرتاحاً، كلّ ما أتاحه له الوقت. كان يُجيب على أسئلة ممثّل الدفاع، الجهة التي طلبت أن تستمع إلى شهادته. في اليوم الثالث، سيختلف الأمر. مَن يعرف شخصيّة السيّد، ثم يُشاهد ملامح وجهه أثناء حديثه عن قاضٍ سابق (دانيال بلمار)، وكلّ الفريق الذي ظلمه في لبنان والخارج، يَسهل عليه إدراك أنّ هذا الشاهد لن ينسى لهؤلاء ما فعلوه بحقّه ما دام حيّاً.
لم ينسَ ميرزا ورفاقه
القرار الآن لرئيس الجلسة، القاضي ري، الذي تفاجأ بقرار الشاهد. أخذ ورد، وتذكير للشاهد بأنّ هذه الإجراءات لا تطاوله، إنّما بلا جدوى. يَترك للشاهد أن يتكلّم. جهتان كانتا ضدّه، ممثّل الادّعاء، الذي لا مشكلة للسيّد مع شخصه، إنّما «مع المكتب الذي يمثّله وهو استمراريّة لمِن وما سبق».
أمّا الجهة الثانية، فتتمثّل بمحامٍ مِن لبنان يمثّل «المتضرّرين». أعاد الشاهد التذكير بما عاناه، حتّى بعد اعتقاله، عندما ثبت تعرّضه للظلم (الذي أقر به القاضي ري في اليوم الأول). روى كيف حاول أن يدّعي على مَن ظلمه مِن فريق التحقيق الدولي، لدى المحكمة الدوليّة، فلم يُسمح له بذلك. كذلك حاول أنّ يدّعي لدى القضاء اللبناني، فكان الجواب أنّ لا صلاحية لنا. ذهب إلى سوريا وادّعى لدى القضاء هناك، فخرج مَن يسخر مِنه، مِن «فريق الظلم» تحديداً... وبقي بلا عدالة. ما الذي كان عليه أن يفعله آنذاك، وأين يذهب؟ أكان عليه أن يأخذ حقّه في يده؟ الآن، ربّما، يكون الإقرار بأن التحقيق الدولي معه «كان مشيناً» وغير حقوقي، كما قال القاضي ري، مناسبة للتخفيف عن الشاهد. كان هذا الإقرار أهم ما حصّله السيد.
لم ينسَ اللواء ما فعله بحقّه النائب العام السابق لدى محكمة التمييز في لبنان، القاضي سعيد ميرزا، ولذا أتى على ذكره أكثر مِن مرّة. هذا في ملف شهود الزور وتضليل التحقيق. ذكّر بدور وزير العدل اللبناني السابق، شارل رزق، الذي ظهر في «ويكيليكس» لاحقاً استنجاده بالسفير الأميركي في بيروت، آنذاك، جيفري فيلتمان، عندما علم أنّ أحد القضاة سوف يخلي سبيله. طلب رزق، وفق إفادة جميل السيد، مِن فيلتمان أن يضغط على الأمم المتّحدة لإبقائه قيد الاعتقال. السفير يراسل إدارته في واشنطن: «إذا خرج السيّد مِن السجن فسوف تهتز حكومة (فؤاد) السنيورة». هنا سأل القاضي ري، ممثّل الادعاء أيغل بوفواس، عن أسئلته للشاهد. قرّر الأخير أنّ لا أسئلة لديه: «لسنا بحاجة لطرح أيّ أسئلة». هذا عكس ما كان قاله في اليومين الماضيين، عندما طلب بل وحدد الوقت اللازم الذي يتوقّعه لطرح أسئلته.
الآن لم يعد لديه أسئلة. بدا القاضي ري أقرب إلى الساخر، وإن بلطف، عندما قال له: «ومتى تكوّنت لك هذه الفكرة؟». لم يجد بوفواس ما يفعله سوى أن يهز برأسه، ممتعضاً، قبل أن يجلس مكانه. محمد مطر، المحامي اللبناني، ممثّل «المتضرّرين»، فعل الأمر عينه، وأصبح لا يوجد لديه أسئلة (بعدما كان طلبها سابقاً أيضاً). الفارق بين هذا وذاك، أنّ الثاني نسب إلى الشاهد بأنّه في شهادته «اتهم اللبنانيين أكثر مِن مرّة بأنهم يكذبون». الظاهر أنّ المحامي لا يعلم أنّ هناك مَن سمع كلّ شهادة السيّد، على مدى الأيّام الثلاثة، ولم يَسمع أن الأخير قال مثل هذا القول (يُمكن مراجعة المحضر الرسمي للجلسات لاحقاً). حاول القاضي، وقد رفع حاجبه، أنّ يستفز المحامي ليطرح أسئلة، لأن «الشاهد تعرّض لك شخصيّاً». لا جدوى. فقط ذكر المحامي شيئاً مِن رسالة القديس بولس عن الكذب وما شاكل. كان هذا منتهى جهده.
إقرار بظلم السيّد... مُجدّداً
أدرك القاضي ري أنّ الشهادة انتهت، وبالتالي الجلسة، فتوجّه إلى السيّد قائلاً: «نشكرك لحضورك ولأنك تفضّلت بهذه الإفادة، التي سنعمل على تقييمها مثل كافّة الشهادات الأخرى. نفهم شعورك بعد توقيفك فترة 3 سنوات و8 أشهر، ونفهم تماماً أن تجد صعوبة في الفصل بين هذه المحكمة التي تعتبرها استكمالاً لما حصل معك مِن قبل لجنة التحقيق (الدوليّة). لكن ممثّل الادّعاء الحالي جاء بعد سنوات من ذلك، وهو بعيد كل البعد عن ذلك». استفاض القاضي بالتوجّه إلى السيّد، وبكلامات التعاطف معه، إنّما «هناك مَن قال إنّني اعتذرت منك، هذا ليس دوري، لكنني كقاض مستقل أشرت إلى أن اعتقالكم كان غير قانوني، وهو يتنافى مع حقوق الإنسان الدوليّة. حصل ذلك بموجب القوانين اللبنانيّة، لم يكن أبداً بموجب المعايير الدوليّة لحقوق الإنسان، ولبنان موقع على العهد الدولي لتلك الحقوق.
نعم، تقارير لجنة التحقيق الدوليّة كانت صامتة حيال اعتقالكم، وهذا برأيّ أمر ما كان يفترض أن يحصل. طبعاً، نحن نعتبر أنّه لم يكن هناك أيّ أدلة أو أرضيّة تسمح باعتقالكم، بل كان على لجنة التحقيق الدوليّة أن تتخذ الإجراءات لتحريركم. هذا ليس اعتذاراً باسم المحكمة، ليست المحكمة هي من اعتقلتكم، كان ذلك بياناً فقط بشأن أمر اعتبرناه غير محق». مِن حقّ جميل السيّد أن يدوّن هذه الكلمات ويحتفظ بها، وأن يتوجّه، بموجبها، لملاحقة كلّ مَن ظلمه قضائياً، مِن لبنانيين وأجانب. لعلّ له الحقّ، أيضاً، أن يذهب بنفسه إلى منازل كلّ أولئك الذين جرّموه، على مدى سنوات من وراء المنابر، وأن يضعها لصقاً على أبواب منازلهم.
يا بلا تهذيب!
بعد انتهاء الجلسة، سأل جميل السيّد القاضي ديفيد ري إنّ كانت المصافحات مسموحة، فأشار موافقاً. ذهب إلى ممثل الادّعاء ومدّ يده للمصافحة، فتراجع الأخير وامتنع، هنا قال له السيّد: «أنت واحد بلا تهذيب ولا تستحق الاحترام». بالتأكيد، لن تكون المحكمة موافقة على ما قيل، إنّما هنا إشارة قويّة إلى الخلفيّة التي ينطلق منها الادّعاء. ففي امتناعه عن المصافحة، إشارة إلى البعد السياسي في هذه المحكمة، الذي يمثّله الادّعاء، والذي يقوم على مواقف مسبقة بعيداً عن العمل القضائي المحض. هذا انكشاف مِن نوع ما. الادّعاء يعلم أنّ السيد هنا مجرّد شاهد. أيّاً يكن، ما حصل عليه السيّد في المحكمة كان أضعف الإيمان، في مسألة باتت مكشوفة أصلاً، منذ سنوات، لذا يجب ألا يختلط الأمر على أحد هنا فيمدح المحكمة الدوليّة. ما حصل كان مجرّد سماع لشهادة من شخص أقرّت المحكمة، في مسألة اعتقاله، أنّه تعرّض للظلم. هذا تحصيل حاصل. أمّا مسألة النظر إلى المحكمة، ككل، فالمسألة في الحكم النهائي الذي ستصدره في النهاية. ذلك الحكم الذي ثمّة مَن لا ينتظره أصلاً، بل ولا يتابع المسار القضائي له، بل ويعيش حياته كما ولو أنّ تلك المحكمة في حيّز العدم.