تستمرّ «الحرب الناعمة» بين وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل والمفوّضية العليا لشؤون اللاجئين، حول ملف النازحين السوريين، في ظلّ تمسّكِ باسيل بقرار عدم تجديد إقامات أعضاء المفوّضية التي يتّهمها بالتحريض على بقاء النازحين في لبنان وعدم تسهيل عودتهم إلى سوريا، فيما يبدو أنّ هذه الهيئة الدولية ليست «معزولة»، وهناك في السلطة وخارجَها مَن يحتضنها ويتعاطف معها في مواجهة قرار الوزير.
وليس خافياً، أنّ ملفَّ النازحين بات جزءاً من عوامل التجاذب الداخلي، بدلاً من أن يكون هناك إجماعٌ حول طريقة معالجته إستناداً الى مقاربة لبنانية مشترَكة تتجاوز النكايات الداخلية والاصطفافات التقليدية، على قاعدة حماية المصلحة الوطنية العليا ووضعها فوق كل اعتبار.
يتّفق اللبنانيون جميعاً من حيث المبدأ على أنّ أعباءَ النزوح باتت تفوق طاقة الدولة والشعب على التحمّل، لكن حين يبدأ العمل لـ«تقريش» هذه المعادلة، تتفرّق الدروب وتفترق الحسابات، ليس فقط على مستوى الساحة السياسية، وإنما أيضاً على مستوى الإطار الرسمي كما ظهر من خلال التعارض الواضح بين موقفي الرئيس سعد الحريري وباسيل حيال طريقة التعامل مع مفوّضية اللاجئين، وصولاً الى توجيه القريبين من الحريري انتقاداتٍ حادّة الى سلوك وزير الخارجية.
وهذا الانقسامُ الرسمي حول سبل مقاربة ملف النازحين عكسَه لقاءُ الحريري أمس الأول مع المنسّق المقيم للأمم المتحدة فيليب لازاريني وممثلة مكتب المفوّضية العليا لشؤون اللاجئين في لبنان ميراي جيرار، في حضور مستشاره الدكتور نديم الملا. وقد بدا الحريري وكأنه يريد أن يقول: «الأمر لي».
وعُلم أنّ علاماتِ الانزعاج من قرار باسيل كانت واضحة على ضيفي الحريري اللذين نفيا السعي الى توطين النازحين أو تخويفهم لمنع رجوعهم الى سوريا، فيما أكّد الحريري أنّ الأمم المتحدة هي شريك للبنان في ادارة ملفّي النزوح والعودة، وليست خصماً.
وقالت أوساط الحريري لـ»الجمهورية» إنّ ما يطلبه وزير الخارجية من مفوّضية اللاجئين غيرُ قابل للتحقّق وهو طرحٌ تعجيزي، لأنّ المفوّضية كجهاز إنساني – تقني ليست الجهة المخوَّلة وضع خطة لعودة النازحين، وهذه مهمّة لا تندرج ضمن قدراتها، بل هي تختصّ بروسيا وإيران والنظام السوري وقوى أُخرى معنيّة بإعطاء ضمانات للعائدين.
وتؤكّد أوساط الحريري «أنّ المفوّضية لا تمنع أيَّ سوريٍّ من العودة، إلّا أنها في الوقت ذاته لا تستطيع أن تجول على مخيمات النازحين وتدعوهم الى العودة كيفما اتّفق، خصوصاً أنّ الحكومة السورية لم تمنح بعد الضمانات الضرورية والمطلوبة».
وتلمح أوساط الحريري الى أنّ إجراء باسيل بالامتناع عن تجديد الإقامات لأعضاء المفوّضية «غيرُ قابل للتنفيذ»، معتبرةً أنه «لا يوجد في القانون ما يُلزم هؤلاء أصلاً بالحصول على مثل هذه الإقامات، وإنما الامر يرتبط بقرار كان قد صدر في الماضي عن وزير الخارجية الراحل فؤاد بطرس». وتتساءل هذه الأوساط: «ماذا سيفعل باسيل عمليّاً؟ هل يعتقد أنّ الأمن العام أو أيَّ جهاز آخر سيعمد الى اعتقال أعضاء المفوّضية وترحيلهم عنوةً الى الخارج، أم أنّ الوزير سيؤسّس قوّةً أمنية خاصة بوزارة الخارجية لتلاحقهم؟».
صحيح أنّ مصالح سياسية مشترَكة تجمع بين الحريري وباسيل منذ التفاهم على انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، لكن سرعان ما تبيّن أنّ «إرسال» التسوية لا يغطّي قضية النازحين، أقلّه حتى الآن. بالنسبة الى الرئيس المكلّف، لا يحقّ لوزير خارجيّته في حكومة تصريف الأعمال أن يقرّر منفرداً، من تلقاء نفسه، فتح معركة ضد الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لأنّ خياراً أساسياً من هذا النوع لا يمكن أن يُتّخذ تحت وطأة مزاج فردي أو للتعبير عن فشّة خلق، «بل إنّ السياسة الخارجية المتصلة بخيارات استراتيجية يجب أن تُرسَم بالتنسيق مع رئيس الحكومة، كونه صاحبَ دور محوَري في صنع هذه السياسة، خصوصًا عندما يتعلّق الأمرُ بموقف الدولة حيال الأمم المتحدة»، وفق أوساط «بيت الوسط».
أما باسيل، فلم يكتفِ بقيادة المعركة ضد المفوّضية من مكتبه في الوزارة، بل هو تمدّد نحو «الخطوط الأمامية» على الأرض عبر زيارته لعرسال التي ربما يصحّ تصنيفُها بأنها «عاصمة» النزوح السوري في لبنان. وتحمل هذه الزيارة دلالاتٍ عدة، لعلّ أهمَّها الدلالة الرمزية. قبل سنوات زار وفدٌ من 14 آذار عرسال للتضامن معها وتثبيت موقعها ودورها، سكاناً ونازحين، في مواجهة الفريق اللبناني المؤيّد للنظام السوري والمُواجِه للجماعات المسلّحة التي كانت تجد في المخيمات بيئة حاضنة لها. في الأمس، تكرّس انقلابُ المشهد وتبدُل الأدوار مع تجوال رئيس «التيار الوطني الحر» في البلدة وبعض مخيّماتها، مشجِّعاً النازحين على العودة ومواكِباً التحضيراتِ المتعلّقة بعودة دفعة منهم قريباً الى سوريا، في رسالة الى البعض في الداخل والخارج على حدٍّ سواء. إلّا أنّ زيارة باسيل لم تلقَ صدىً إيجابياً لدى أوساط الحريري التي اعتبرت أنها «تندرج في سياقٍ تصعيدي، ولا تساهم في إيجاد معالجة حقيقية لقضية النازحين».