أفتحُ كتاب التاريخ على أولى صفحاتهِ، اجتماعات سرية، مراسلات مشفرة، مؤتمر أول، وثانٍ، وثالث، أسر أعضاء، علم يُرسم في زنزانة، إعلان دولة من خلف القضبان، شهيد أول، حشود غاضبة، شوارع ممتلئة، ثم إعلان "دولة".
يا رجل! تغلق الكتاب وأنت تفيضُ بمشاعِر هجينة عليك، ماذا تُسمى؟ فخر، فرح، انتماء، وكأن التاريخ أحيا فيك شيئاً قد وُئد قبل ولادتك، وما عرفته ولا عرفك، والآن يُزرع فيك.
خرجنا وفينا حكايا، من كثرةِ الإهمال والتحريف والتشويه، صارت أساطير لا تستطيع تصديقها ولا تحتمل التكذيب. والقارئُ صار حكواتياً، يعيد صياغة التاريخ بما يُخيل له، فتارة يكون البطل وتارة يكون المظلوم، وهو في الأصل لم يَذكره التاريخ يوماً ولكن لم يمنعهُ أحد من التلاوة المغلوطة، فما المانع في "التبهير"؟
وجئنا نصحح للسامعين ما يسمعون، وكالاساتذة المخضرمين طرحنا عليهم الاشكالية فنناقش بما يخطبون، فقلنا لهم عرّفوا لنا الانتماء يا شعبنا العظيم، وصارت الأشعارُ تصدح بالحبيبة والحبيب، والاصوات تعلو بذكر القهوة "السادة منها وبالحليب"، وآخرون قالوا انتمائي لنفسي، ومن ماتوا في خط حزبي، والاحزاب ما أجابت بل قالت "انتظروا البيان ".
والمصيبة كانت حينما رأينا المعلقات تستدل على بيوتنا أعلاماً بألوان زاهية، خضراء برازيلية وصفراء ألمانية، زرقاء ارجنتينية، حتى صارت بيوتنا سفارات وحروبنا كروية عالمية وشتائمنا أسماء لاعبين لم يسمعوا بنا يوماً وعلى الأرجح أننا لن نلاقيهم أبداً، لكننا بانتمائنا لهم متمسكون، ندافع بشراسة عن قرار حكَم في لاعب خصم "مس" الكرة بيديه، والخصم العدو الحقيقي يخنق بيديه بلادنا ولا اعتراض عليه ولا حكم ينظر فيه.
فيا تاريخ، مرحبا، أهلا بك على أرضٍ كانت لك، وصارت مرتعاً للبائسين. لا مشكلة فيك سوى أنك ما عرفت الاختيار. وقعتَ بين أيدٍ تعبة وعقول عاجزة تركضُ يومها تعملُ لغدِها وما بالها في الأمس فقد صار أمساً، تاريخاً. لملم ما تبقى من أوراقك وابحث لك عن بلدٍ يُمجّد أبناؤهُ "وطنهم"، يغنون فيه " كلنا للوطن" عن قناعة وليس قصاصا صباحياً لنظامٍ تدريسي رجعي جعل منك كتاباً ثقيلا على ظهورنا ونفوسنا. وإن وجدت أرضا لك سنرسل هدية الفنانين أشباه فيروز والرحابنة حتى يُصاغ لك نشيد، و تصبح رسمياً "كتاباً وطنياً".
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع