أذكر عام 2009 كنت اشتري لوالدتي العسل من منحلة تديرها عائلة سورية تقيم في الزرقاء آتية من مدينة درعا، وكان الشخص الذي أبتاع منه بدشداشته القصيرة، وهندامه الخارجي السلفي يحاول في كل لقاء بيننا هدايتي لمنهج السلف كما كان يسميه (فكر ابن تيمية وابن القيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب). يومها كنت أداريه قائلا: لمَ أنت عاكف على هذه الآراء، مع أن معظم أهل سورية على منهج دار الفتوى السورية، ما يعني أنهم أحناف في أحكامهم الفقهية أو شوافع، وعلماؤهم أشاعرة وماتردية ومتصوفة، مخالفون للمنهج الوهابي الذي تبشرني به؟ هنا أجابني إجابة مريبة لا أشك أنها تكشف جانبا مهما من تحضيرات الحرب الكونية على سورية. ملخص جوابه أن ما ذكرته له هو أحد أسباب فراره وعائلته من الجنوب السوري، وأن أصدقاءه منذ ذلك الحين قد حملوا السلاح، ويستعدون للّحظة الفاصلة، بل هاجموا بالفعل مقرات حكومية، وقتلوا أشخاصا من الأمن، ورجال دين مناوئين للتيارات السلفية، مضيفا أن الجهاد سيعلن قريبا على من وصفه بالنظام الرافضي، ومن يسانده من شيوخ الدين كالشهيد الشيخ البوطي - رحمه الله- وأتباعه.
منذ ذلك الوقت وإبان سنوات ما سمي بالربيع العربي كنت أعمل في الصحافة بأشكالها وتوجهاتها، وكنت أشاهد حجم الفبركة التي تتم بهدف إثارة الناس، وتأليب المكونات المجتمعية، والعائلات الروحية خاصة تلك التي تعيش داخل سوريا على بعضها البعض، لدرجة مريعة، حيث كانت شعارات مسيرات بعض الأرياف: بالذبح جئناكم، أو علوية بالتابوت، ومسيحية ع بيروت، تلتها مزادات قطع الرؤوس الآدمية، وأكل القلوب وسلخ الجلود، ورجم النساء، ما وشى بلهيب ممنهج للفتنة الطائفية الخلاقة بالوصف الأمريكي، ولا من صدقية لادعاءات الحرية الحقيقية للشعب السوري.
من هذه الفبركات بعد عام 2011 ما بثته ذات مرة قناة الجزيرة على أنه هجوم أمني على طلبة السكن الداخلي في جامعة حلب مع أن الفيديو المصور هو لمشاجرة طلابية في جامعة مؤتة الأردنية، وقد أرسله لي أحد الطلبة قبل الأحداث التي انطلقت في درعا، يوم كنت أقدم برنامجا متخصصا بالطلبة على إحدى القنوات المحلية في الأردن.
وفي تالي الأيام كانت تهزني من الأعماق أخبار تصلنا بين الفينة والأخرى عن مقتل زملاء لنا جامعيين، أو من الحراك الشعبي، استطاعت الماكنة الإعلامية الموجهة حرف مسيرهم، وغسل أدمغتهم، قضوا في معارك الجيش السوري مع الدواعش وجبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة في سوريا.
واليوم، إذ يتمركز الجيش السوري على طرف الحدود فإنني في الاغتراب مطمئن على عائلتي، وأقربائي وأصدقائي في الأردن، اطمئنان أكده قبل قليل قائد المنطقة الشمالية في القوات المسلحة الأردنية العميد الركن خالد المساعيد، بتصريحه أن سيطرة الجيش السوري على معبر نصيب والشريط الحدودي مع الأردن يخدم أمن الأردن الوطني.
وواقع الأمر، فالجيش السوري وحلفاؤه هم رأس الحربة في التصدي للأدوات الإسرائيلية التكفيرية في كل المشرق العربي. وما الذي جناه الأردن طيلة السنوات الماضية من فلتان الحدود مع سوريا، غير الخسارة الاقتصادية والمشكلات الأمنية؟ وماذا لو نجحوا في إسقاط الدولة السورية وتلقف المتطرفون التكفيريون اللحظة ومنهم آلاف يحملون الجنسية الأردنية داخل سوريا، ووجهوا بنادقهم نحو الأردن وهم الذين على الدوام قد أداروا ظهورهم للاسرائيلي؟ ألن يكون ذلك سبيلاً إلى حرب وفوضى بين المكونات في الأردن، بين أردنيين وفلسطينيين، وعندها لا قدر الله سيثار بالطبع الشعور الغرائزي لدى الخلايا النائمة التكفيرية وحواضنها، وتبدأ كعادتها بتصفية الخصوم والمسيحيين والدروز وصولا الى تحقيق السيناريو الإسرائيلي على حساب الأردنيين والفلسطينيين بعد أن تكون الحرب أكلت الأخضر واليابس؟
على الحكماء الحريصين على الأردن اغتنام اللحظة التاريخية، ومساعدة أنفسهم، من خلال اسناد ظهورهم للمحور الوحيد الذي أنهى خطر داعش حارق الطيار معاذ الكساسبة، المحور الذي يقف بوجه إسرائيل المتربصة، والتي مع حليفها السعودي لا ترى في الأردن إلا ممراً لتحقيق أمانيها ومغامراتها.
ليتني في هذه اللحظة على معبر جابر، اللحظة التي انتظرتها طويلا، أحيي حماة الديار، وأحتفل برفع علم الجمهورية العربية السورية، وتمزيق أعلام الانتداب الفرنسي، وأسجل لحظات هزيمة اللحديين الجدد متعددي الجنسيات.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع