لم يعد وصف نتائج حرب تموز 2006، بأنها محطة مفصلية في حركة الصراع مع إسرائيل، مجرد تقدير نظري، ننتظر المستقبل حتى نكتشف مفاعيلها. حركة الواقع تشي بأكثر من ذلك

 

بعد مُضيِّ 12 عاماً على عدوان تموز 2006، بات بالإمكان الحديث عن خيارات سقطت، وأخرى انكشفت أبعادها الكارثية، من جهة إسرائيل وخصوم خيار المقاومة في آن واحد، فيما أكدت حركة الواقع الإقليمي طوال السنوات التي تلت، أن لهذه الحرب نتائج تتجاوز معادلات الردع بين لبنان وإسرائيل، رغم أنها تستند إليها في إحداث مفاعيل تأسيسية في مجمل حركة الصراع مع العدو، وهو ما جعلها الركيزة التي ساهمت في بلورة معادلات المنطقة.

صحيح أن ساحة الاختبار الأولى لهذه الخيارات الاستراتيجية في التحرير والدفاع والردع كانت لبنان، لكن أبعادها التأسيسية تتجاوزه إلى فلسطين والبيئة الإقليمية، حتى لو تأخر تظهيرها في بعض الساحات بفعل الحصار السياسي والإعلامي المضروب على هذه الانتصارات. لا بل إن كون لبنان ساحة الاختبار، يشكل دليلاً إضافياً على أنه الأكثر ملاءمة للتحرير والدفاع والردع. انطلاقاً من أن لبنان، بالقياس إلى محيطه العربي ــــ وتحديداً دول الطوق العربي المتاخم لفلسطين ــــ هو الأضعف على مستوى الإمكانات، والأصغر مساحة، والأقل عدداً... وهي كلها عوامل حاسمة في أيِّ معارك عسكرية، وتحديداً عندما يكون هناك تفوق هائل لطرف على آخر.
أية أبعاد تأسيسية مفترضة لأي خيارات استراتيجية أنتجت انتصارات، لا تأخذ هذه الصفة إلا إذا هُدمت تصورات وتقديرات بديلة مطروحة في مقابلها. فما الخيارات التي هدمتها المقاومة في لبنان، وكيف؟ على الرغم من أنّ للتصور الأول المهدوم أنصاراً ما زالوا يتمسكون به، وهو أمر مفهوم.

عام 2000 تاريخ تأسيسي
لا يكتمل المشهد من دون الحديث أولاً عن بعض الأبعاد التأسيسية الأخرى لتحرير عام 2000، الذي هدم بدوره رؤى وخيارات، وأثبت أخرى في أول انتصار للمقاومة على الاحتلال الإسرائيلي، وتجلى ذلك بتحرير الاراضي اللبنانية المحتلة (باستثناء مزارع شبعا وتلال كفرشوبا).
إلى جانب الدور الاستنهاضي لفعل المقاومة، سواء بهدف التحرير أو الدفاع والرد، أسقطت المقاومة في لبنان مقولة أنه لا يمكن تحرير أراضٍ تحتلها إسرائيل من دون توازن استراتيجي مع كيان العدو، المتفوق تكنولوجيا وعسكرياً ودولياً، أو من دون أثمان سياسية وأمنية تُقدَّم للعدو، وبالتالي، شكلت المقاومة نموذجاً يقتدى من موقع التجربة المدويَّة في نجاحها.
في الدائرة الأوسع، قدَّمت المقاومة خياراً استراتيجياً ناجعاً من أجل تحرير الأرض، أثبت جدواه على أرض الواقع، بالرغم من التفوق الذي يتمتع به العدو. واستطاعت أن تشكل بديلاً نظرياً وعملياً من خلال انتصارها الذي هدم البديل المطروح في مواجهتها، عبر الخضوع للواقع القائم وشرعنته تحت شعار التقليل من الخسائر والقَبول بالحدّ الأدنى، وهو ما يُروَّج له تحت عنوان «السلام» المزوَّر. ويستندون في ذلك إلى أن البديل من هذا التسليم بالوقائع، حرب تحرير شعبية، لا تتوافر مقوماتها، وتحديداً بعد سلسلة الهزائم التي واجهتها الأنظمة العربية منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي حتى عام 2000.
في مقابل هذين البديلين، الأول، يعمّق الخسائر ويحولها إلى كارثة تاريخية، والثاني، غير واقعي في هذه المرحلة التاريخية، أثبتت المقاومة بالتجربة أنها تشكل بديلاً ناجعاً للتحرير من دون انتظار استراتيجية عربية مشتركة، ومن دون الخضوع والتسليم بوقائع صنعها الاحتلال.

العدو يدرك الأثمان التي سيدفعها
صحيح أن التحرير أنهى التهديد الذي يمثله الاحتلال العسكري المباشر، لكن التهديد الإسرائيلي المحدق بلبنان ودول المنطقة، لا يقتصر فقط على الاحتلال. 
وإذا كان دور المقاومة التقليدية يتبلور في مواجهة الاحتلال العسكري، وهذا ما أثبتته كافة التجارب التاريخية، لكن زوال الاحتلال العسكري المباشر، وتحديداً في الحالة اللبنانية، لا يلغي مروحة تهديدات إسرائيلية نظرية وواقعية محدقة بلبنان. تكفي الإشارة إلى نموذج حصار غزة، الذي تفرض إسرائيل في ضوئه حصاراً بحرياً وجوياً وبرياً، تضغط فيه على سكان القطاع وفصائله المقاومة، حتى من خلال حبة الدواء ولقمة العيش وأبسط مقومات الحياة. ولعل نموذج العدوان السعودي الأميركي المتواصل منذ سنوات على اليمن لإخضاعه، عبر الجو والبر والبحر، دليل إضافي...
في المقابل، لدى العدو الإسرائيلي الدافع والقدرات والسوابق لشنّ الاعتداءات، والضغط بمختلف الوسائل، بل إن الساحة اللبنانية لها الأولوية في ذلك، وبلسان قادة العدو أنفسهم، لولا قدرات المقاومة ومعها حسابات الخسارة، التي تدفع العدو إلى الامتناع عن اعتداءاته. كذلك، إن قدرات العدو وسوابقه تعزّز حاجة لبنان أكثر من غيره، لكونه يعاني من نقاط ضعف تكوينية في الجغرافيا والديموغرافيا والإمكانات، إلى استراتيجية فعالة تشكل مظلة حماية له، في مواجهة مروحة واسعة من التهديدات والسيناريوات التي لم يكن امتناع العدو عنها قراراً ابتدائياً أو طوعياً، بل لإدراكه للأثمان التي سيدفعها. وهكذا يصبح واضحاً أن المقاومة بما هي تشكيلات تتبنى تكتيك «حرب العصابات»، الذي أثبت جدواه في مواجهة الاحتلال المباشر، لا تصلح لمواجهة هجوم معاد بالنيران عن بعد أو حتى اقتحام بري واسع أو حتى لمواجهة فرض حصار جوي وبحري... ذلك أن هذا الدور التقليدي للمقاومة يترجم على أرض الواقع في أعقاب الاحتلال.

استراتيجية دفاعية وردعية
مع ذلك، استطاعت المقاومة في لبنان أن تطور تكتيكاتها وقدراتها، بما مكّنها من أن تشكل خياراً استراتيجياً دفاعياً وردعياً، ناجعاً في مواجهة مستويات متعددة من التهديد والعدوان الاسرائيلي الذي جرّبه ويجربه في ساحات أخرى، والتاريخ الذي صنعته نتائج حرب عام 2006، وقبلها تحرير عام 2000، خير مثال تطبيقي على جدوى هذه الاستراتيجية وفعاليتها. وهكذا شكلت بديلاً أكثر واقعية (نضالية) من الخيارات التي يُسوَّق لها بأن شعوب المنطقة ليس أمامها إلا خيار التسليم بموازين القوى الدولية – والخضوع للوقائع التي فرضها الاحتلال أو التعرض لمختلف أنواع العدوان والتهديد الخارجي، في ظل موازين قوى إقليمية ودولية لمصلحة الكيان الإسرائيلي، وفي أحسن الأحوال استمرار حالة الحرب التي تستنزف شعوب المنطقة ودولها، من دون نتائج مرجوة على مستوى التحرير والدفاع.
في المقابل، ثبت طوال السنوات الماضية أن الخيارات الأخرى كانت خيارات عقيمة وأكثر كلفة على المدى البعيد، ولم تستطع أن تحقق حتى الحد الأدنى من الشعارات التي رفعتها، والتي كان منسوب التنازل فيها هائلاً. مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن عوامل تأخير انتصار المقاومة في فلسطين لا يعود بالدرجة الأولى إلى تفوق الإسرائيلي والأميركي، بقدر ما يعود إلى الطوق العربي والتنسيق الأمني بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية الرسمية، والأجهزة الأمنية الإسرائيلية في الضفة الغربية، وهو معطى ينبغي أن يكون حاضراً في تقويم تجربتي المقاومة والخيار التسووي العقيم.


ولأن تجربة المقاومة في لبنان شكلت نموذجاً تطبيقياً رائداً على مستوى الإنجازات الاستراتيجية والتاريخية، على مستوى التحرير والدفاع والردع، وقدمت للعالم العربي خيارات بديلة يمكن بالاستناد إليها إحداث تغيير جذري في معادلات الصراع، فقد تعرضت ــ وما زالت ــ لمخطط يقوده الأميركي والإسرائيلي، ويشارك فيه الإقليم من خلال حلف عربي تقوده السعودية وتنقاد إليه أيضاً قوىً محلية، يهدف إلى تطويق المقاومة وتشويه صورتها وحصر مفاعليها، ومحاولة قلب الحقائق وتحويل المقاومة التي تمنع العدو من التفكير بإعادة احتلال لبنان، واستباحته عدواناً وحصاراً، إلى عبء.

2006: تبديد الأوهام
بعد 18 عاماً على التحرير، و12 عاماً على انتصار عام 2006، وبعد تحرير غزة، والصمود الذي أظهرته المقاومة في فلسطين، رغم الحصار الخانق المضروب حولها، وربطاً بنتائجها التي تثبت ويعاد إثباتها يوماً بعد يوم، بات بالإمكان أكثر من ذي قبل توصيف هذه المحطات التاريخية بالمفاصل الأساسية في تاريخ الصراع مع إسرائيل، ودليلاً دامغاً يُستنَد إليها، لمواجهة خيار الاستسلام والخضوع، مهما جرى العمل على تجميل توصيفاته. 
ويمكن إجمال الدلالات والأبعاد التي انطوت عليها نتائج حرب 2006، بأنها بدَّدت العديد من الأوهام التي زرعتها حملات تضليل وتشويه استمرت عقوداً من الزمن، من ضمنها ما يتصل بالنظرة إلى الذات، وإلى العدو، بل وبنظرة العدو إلى نفسه، وإلى غيره، ونظرة حلفائه إليه. 
لقد أُسقطت رهانات وخيارات عززتها في الأذهان هزائم ولَّت، وهو ما تجلى في موقف رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، (قبل أن يتولى منصبه)، في الذكرى السنوية الأربعين لحرب 67، (موقع يديعوت أحرونوت/ 6/6/2007)، بقوله: «في أعقاب نتائج حروب الستة أيام، ويوم الغفران (حرب 1973) تغلغل في وعي جزء من العالم العربي أن إسرائيل دولة لا يمكن التغلب عليها. النصر والردع الإسرائيليان شكّلا عاملاً حاسماً بأن تتوصل دول عربية إلى فهم أنه ينبغي الاعتراف بوجود دولة إسرائيل وعقد سلام معها. وهكذا وقّعنا على اتفاقيات سلام مع مصر والأردن، وأيضاً وصلنا إلى مؤشرات مصالحة مع الفلسطينيين. لكن منذ الانسحاب الأُحادي من لبنان (عام 2000)، ومروراً بالانسحاب الأُحادي من قطاع غزة (عام 2005)، وحالياً بعد حرب لبنان الثانية، انقلب الاتجاه، والآن من الواضح أن إسرائيل ليست دولة لا يمكن التغلب عليها. وعلامات الاستفهام عادت ترفرف فوق استمرار دولة إسرائيل، ليس فقط لدى الأعداء، بل أيضاً لدى الأصدقاء».

المصدر: علي حيدر - الاخبار