تختزن ذاكرةُ العديد من اللبنانيين، ولا سيما من عاش الأحداث اليومية لحقبة الحرب الأهلية اللبنانية في ثمانينيات القرن الماضي، تختزن العديد من الأحداث التي كانت تطال حياتهم اليومية، إن كان على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي، فضلاً عن فقدان حالة الأمن والأمان اللذين كانا قلقهم اليومي.
فمنذ ثلاثين سنة، وبالتحديد في صبيحة يوم 18 تشرين الثاني من العام 1988، وكنتُ آنذاك في الثانية عشرة من العمر، أخذ الناس في أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت بالحديث عن عملية اغتيال لأنطوان لحد، قائد ميليشيا لحد المتعاونة مع العدو الاسرائيلي، محاولة لم يُكتب لها النجاح حيث انتهت باعتقال المناضلة سهى بشارة في معتقل الخيام.
كنا آنذاك نعيش في أحياء الضاحية الجنوبية آثار حرب المخيمات، الحرب التي اندلعت في العام 1985 واستمرت لأكثر من سنتين، تم خلالها حصار المخيمات في صبرا وشاتيلا ومخيمات برج البراجنة، بالإضافة الى المعارك المتنقلة بين الاحزاب اللبنانية في شوارع بيروت وضواحيها، كما سائر المناطق اللبنانية، والتي كانت امتداداً للحرب الاهلية اللبنانية منذ العام 1975.
كانت المناوشات اليومية خلال أيام الحرب هي الحاكمة على حركة الناس وتنقلاتهم، إن كان لقضاء أعمالهم وتأمين قوت يومهم أو السعي وراء لقمة العيش، والتي كانت «ربطة الخبز» الركن الاساسي فيها. إذ لم يكن في الضاحية الجنوبية بحسب ما أذكر، كما الحال في سائر مناطق بيروت المكتظة بالسكّان، إلا مخبزان متواضعان يؤمنان ربطة الخبر للأسر اللبنانية التي كانت تسكن أحياء الضاحية الجنوبية، الأول في منطقة الغبيري، والثاني في منطقة حارة حريك.
أزمة إيصال الطحين الى الأفران، بالإضافة الى جشع التجار بسبب غياب الدولة الراعية للقانون، كانا الحاكمين على توفير ربطة الخبز بشكلٍ كاف. فكان الشبان من أفراد الأسرة الواحدة يضطرون الى الانتظار في طوابير طويلة ولساعات عديدة للحصول على ربطة خبز واحدة لكل فرد، إذ كان يُمنع أخذ أكثر من ربطة واحدة لكلٍّ منهم. ولأن عائلتنا مؤلفة من ثمانية أفراد، كان والدي يَصحبنا أنا وأخي كل يومين الى «فرن الخبز» الواقع في منطقة الغبيري لنلتحق في الطابور، إما في الصباح الباكر أو ليلاً، لنستطيع الحصول على ربطة خبز لكل منا بعد ساعات طويلة من الانتظار، في سبيل سدّ حاجتنا اليومية منها، وفي الكثير من الاحيان كنا نعود خائبين إما لنفاد «ربطات الخبز» أو لإقفال أبواب «الفرن» بسبب تجدد الاشتباكات المسلحة.
بالرغم من المآسي التي كان يعيشها المواطن كل يوم وأمام أفران الخبز، كانت «الواسطة» تفعل فعلها حتى مع ربطة خبز. إذ إنه كان يوجد في كل «فرن» باب خلفي لا يستطيع الدخول منه إلا من لديه واسطة لتحصيل ما طاب له من ربطات الخبز، ويخرج بها إما مستتراً أو أمام أعين الناس بكل وقاحة، يخرج دون أدنى شعور بالرأفة أو الضمير الذي كان مفقوداً لدى الكثير من الناس، بل قد تصل الوقاحة ببعضهم الى اقتحام الطوابير الممتدة لأمتارٍ طويلة، المقسّمة بين الرجال الى اليسار والنساء من كبار السن الى اليمين، فيخترق الطوابير في الوسط ليأخذ ما طاب له من ربطات الخبز من «عامل الكونتوار» الذي كان هو الآمر والناهي، متجاهلاً صيحات الناس وألم انتظارهم لساعات وساعات، فقط لأنه «صاحب واسطة».
لم يختلف الأمر الآن ونحن في العام 2018، أي بعد ثلاثين عاماً انتهت خلالها الحرب الأهلية وعادت الدولة لممارسة مهامها، وقد اختفت المتاريس والشوارع المقفلة بسبب القنص اليومي التي كانت تعيق حركة المواطنين. إذ أصبح هناك أفران تؤمن الخبز للملايين من اللبنانيين بشكلٍ يومي دون مشاكل تذكر، ولكن «ربطة الخبز» لم تعد الحديث الذي يشغل بال الناس، بل أضحت القصة متمحورة حول «المستشفى»، المؤسسة الانسانية التي يجب أن تؤمن الرعاية الطبية للمواطن على حد سواء.
فالبرغم من انتهاء الحرب الاهلية وقيام الدولة اللبنانية منذ اتفاق الطائف في العام 1989، كما العمران الذي طال معظم الاراضي اللبنانية على مدى تلك السنوات، رغم الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة وتصدي المقاومة الباسل لها وفرض معادلة الردع المتبادلة، ما زالت قضية ربطة الخبز اليومية تشغل أذهان الناس، انما الآن تحولت الى «قلق الانتظار» أمام أبواب المستشفيات. فأضحى «الانتظار» في أسِرّة غرف الطوارئ، التي تسبب بنفسها الكآبة للمريض المحتاج الى علاج ودخول المستشفى، يقلق بال اللبنانيين.
وبغض النظر عن القصور والتقصير للمستشفيات أو غياب دور الدولة الراعي الأول لصحة المواطن وتسهيل سبل علاجه، لم يعد الدخول الى المستشفى وحجز سرير للعلاج بالأمر المتيسر لعامة الناس، إذ تحول «الطابور» أمام أفران الخبز في الثمانينيات الى طابور «انتظار» في غرف الطوارئ أمام المستشفيات، حيث يقبع المواطن في سريرٍ متواضع مُعد للحالات الطارئة، ريثما يتم ايجاد سرير شاغر له هنا أو هناك أو نقله الى مستشفى أخرى للغاية نفسها، وفي الكثير من الحالات يعود الى بيته خائباً مع ما تيسر له من علاج في «طوابير» أسِرّة الطوارئ.
بالاضافة الى ذلك، انتقلت «الواسطة» من أمام أبواب أفران الخبز الى «مكاتب الدخول» في معظم المستشفيات، حيث ينتظر ذوو المريض لساعات بل وأيام أمام مكاتب الدخول لتحصيل «موافقة دخول»، فيأتي من لديه «واسطة» ليدخل الى المستشفى متجاهلاً ألم الناس ومشقة انتظارهم لساعات وأيام، فقط لأنه «صاحب واسطة».
فالمريض تحول الى «ربطة الخبز»، والمستشفى أضحت ترمز الى «فرن الخبز»، ينتظر ذووه ساعات وأياماً علّهم يستطيعون تأمين «ربطة خبز»، عفواً، بل حجز سرير له في المستشفى من أجل تأمين علاجه. كما أن «مكتب الدخول» أصبح يمثل «عامل الكونتوار» في المخبز، الآمر والناهي الذي يتلقى الاتصالات لإدخال مريض ذي شأن «وصاحب واسطة»، متخطياً الطوابير من عامة الناس على بساطٍ من الريح الى مرقده في المستشفى. فهنيئاً لمن لديه «مرقد عنزة» في غرف المستشفيات.
باحث اجتماعي
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع