بات ما يروج عن مقترحٍ لتشريع زراعة الحشيشة أو الخشخاش في البقاع حديث الناس في البقاع وشغلهم الشاغل الذي يتلهون به عن فائض مشاكلهم المزمنة. فالمقترح القديم الجديد نفسه يكاد يصبح مخدراً دائماً يستلهُ الساسة ليكبتوا به غضب الجمهور كلما أوشك على الانفجار في هذه المنطقة التي أمعنوا فيها حرماناً وإفقاراً على كل الصعد.
يُقدَّم تشريع الحشيشة وكأنه الحل السحري لجميع مشاكل البقاع وخشبة الخلاص للاقتصاد اللبناني، وإن كان ثمة مغالطة كبيرة في هذا الطرح من الناحية العلمية والعملية إلا أن هذا ليس بالضبط ما يشغل البقاعيين الذين يتوجسون خشية من هذا المقترح القديم المستجد الذي حلّ بنداَ أول على المشاريع الانتخابية لمعظم مرشحي دورة 2018 النيابية وما قبلها، وحل مادةً أولى في برامج الاعلام اللبناني الذي لم يستطع بعد حسم الجدل حول ما إذا كان التشريع يشمل نبتة الحشيشة أم الخشخاش، وهما ليسا صنفا واحدا بالمناسبة! فقد خلق المقترح كمّاً لا ينتهي من الالتباسات التي لا إيضاح لها، أولها قلق البقاعيين من انفلات الأمور وتحول المخدرات إلى سلعة رائجة بين الشباب تُفاقم الوضع وتزيده تدهوراً خصوصاً أن التشريع يكسر الحاجز النفسي-الديني الذي صنعته المقاومة خلال السنوات العشرين الماضية والذي حصر زراعة المخدرات في فئة محدودة، وثانيها الخشية من التزايد المفاجئ والسريع في حجم المساحة المزروعة بالحشيشة مقابل انخفاض مساحة تلك المزروعة بالخضر والحبوب بحيث ينخفض سعر الحشيشة بالتوازي مع ارتفاع سعر الخضار وفق قاعدة العرض والطلب البسيطة مؤدياً إلى أزمة في تأمين المواد الغذائية الأساسية، بما يعنيه ذلك من تعريض الأمن الغذائي اللبناني لمزيد من الأخطار، أما الخشية الكبرى التي لديها ما يبررها فهي من الفساد وسوء الإدارة والاستثمار السياسي لتغيير هوية المنطقة السياسية، والأمثلة بارزة للعيان فالدولة التي تعد بتنظيم محصول الحشيشة هي نفسها العاجزة عن تصريف موسم التفاح أو وضع رزنامة زراعية واضحة تحمي المزارعين والمواطنين، وهي نفسها التي حولت مواسم التبغ إلى استثمار سياسي واحتكار لصالح فئة دون أخرى حيث لم يغب بعدُ عن ذاكرة البقاعيين كيف تم توزيع "رخص الدخان" في البقاع على المحسوبيات ما أجبر الكثير من المزارعين على العمل كأجراء لدى من يملك الرخص التي يتركز العدد الأكبر منها في يد مجموعة محدودة.
لم يتضح بعد شكل التشريع الذي تصبو إليه الدولة أو الآلية النهائية التي ستعتمد، أهي تشريع الزراعة وفق رخص كالتبغ تشتريه الدولة مباشرةً أو عبر وسطاء أو عبر آلية متكاملة تصل إلى حد التصنيع "لأغراضٍ طبية" في بلد اضمحلت فيه الصناعات الدوائية المحدودة أصلا ؟ وماذا عن ضبط الاستهلاك أو كمية الاستهلاك المسموح؟ تساؤلات كثيرة تراود المزارعين وعموم أهالي المنطقة الذين لم يعهدوا من الطبقة السياسة حرصاً صادقاً قط على مصالحهم ما يجعل القلق يراودهم من أي وعود براقة تصدر عن هذه الطبقة خصوصا في ظل الحديث عن انعطافة في المقاربة الأمريكية للموضوع عبر توصيات ماكينزي أو عبر غض النظر الأمريكي عن النية اللبنانية لتشريع الحشيشة التي صدرت على لسان عراب المشروع الرئيس بري بحضور السفيرة الأمريكية التي لطالما عارضت بلادها هذا المقترح، فقد تربت هذه المنطقة على عدم الثقة بأي مشروع يرتبط باسم الراعي الأمريكي الذي دعم وسلح وغطى العدوان الاسرائيلي المستمر عليهم طوال عقود. أما خصخصة "القطاع" أو تقاسم أرباح المواطن المزارع فاحتمال واردٌ جداً لدى المزارعين يرون فيه خطراً على مواسمهم وأراضيهم لما يمكن أن ينتجه توافد الشركات الخاصة إلى سهلهم، لذلك لا يترددون في التعبير عن قلقهم من خسارة بعض حصتهم –التي قد تتضاءل أصلاً- لا لصالح الدولة بل لجيوب بعض كبار المتنفذين الذين اعتادوا الوقوف في الظل خلف الشركات الخاصة التي تلتزم القطاعات المربحة في البلد.
يُجمع ذوو الاختصاص في الشأن الاقتصادي أن ما يحكى عن قدرة زراعة الحشيشة على انتشال لبنان من أزمته الاقتصادية ما هو إلا تخرصات لذر الرماد في العيون وإبعاد الأنظار عن الحلول الحقيقية التي تتنافى مع السياسة الاقتصادية القائمة في البلد منذ التسعينات، فمردود زراعة الحشيشة لن يعدو كونه مورداً جديداً يضاف إلى موارد الخزينة اللبنانية لكنه مورد متواضع جدا، خصوصاً بالمقارنة مع الأثر السلبي لقوننة هذه الزراعة وبالتالي انتشارها في المجتمع اللبناني، ليس في كسر الحاجز النفسي الذي بُني خلال السنوات الماضية بين معظم المواطنين وهذه المواد المدمرة بل وفي تكريس نبتة الحشيشة كرمز للبنان والبقاع على وجه الخصوص كما كُرست شتلة التبغ في سنوات مضت كأيقونة للجنوب وكأن قدر مناطق المقاومة ألا يرمز إليها إلا بنبتة مسرطنة وأخرى مخدرة.!
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع