يغيب الكثير من القضايا التاريخية للشطر الأفريقي من العالم العربي عن الشطر الآسيوي منه، فباستثناء ثورة المليون شهيد في الجزائر التي أنصفتها الدعاية الناصرية وثورة عمر المختار التي خلدها الراحل مصطفى العقاد في فيلمه الشهير يكاد المشرقيون لا يعرفون شيئا عن تونس أو ليبيا أو المغرب، وذلك عائد، بالدرجة الأولى، لإهمال المناهج الدراسية العربية التي تستهدف الناشئة في المشرق للقضايا العربية، لذلك تبدو مصطلحات كـ "حكم الإيالة" و"إمارة الباي" في تونس مبهمة لدى المشرقيين إلا للنذر اليسير من المتخصصين. ينسحب الأمر نفسه على الواقع السياسي المعاش اليوم. فالأخبار السياسية القادمة من تونس تصاغ للمتلقي العربي البعيد وفق رؤيتي المحورين الداعمين لطرفي الحكم في البلاد، فقلما نجد أخبارا لا تتوافق مع المنظور التركي القطري الداعم للاخوان المسلمين أو مع المنظور السعودي الإماراتي الداعم لليبراليين (نداء تونس)، فيما يقدم ما عدا ذلك على أنه هامشي أو لا يتم التطرق إليه بتاتاً على أهميته البالغة.
عرفت تونس خلال القرن السابع عشر آلية حكم بسيطة بعيدة عن التعقيد قائمة على حكم الأمير المستبد الواحد المعروف باسم "الباي" المنتسب الى الأسرة الحسينية، وهي أسرة مملوكية ككل الأسر التي يعتمد عليها نظام الحكم التونسي القائم على المماليك ذوي الأصوال الإغريقية والقوقازية من المرتدين عن المسيحية الساعين للجاه والثروة لدى البلاط التونسي، وكان الباي يختار منهم وزراءه ومحظييه لأنهم بلا جذور وبلا قواعد داخل البلاد قد تتيح لهم تشكيل خطر على حكمه. لم يكن ثمة وجود لديوان محدد الأطراف والأعضاء والمواعيد ولا مناصب معروفة المسؤوليات، بل مجرد مجموعة من الأشخاص الذي يسبغ عليهم الباي ألقابا تحدد مهامهم كـ"المستشار، أي الوزير الأول، أو الخزندار أو وزير البحرية أو وزير الشؤون الخارجية، وهي مناصب غير ثابتة على الإطلاق وغير محددة الصلاحيات بشكل واضح،  إذ تخضع لآراء وأهواء الباي الذي يحتفظ بالقرارات الحاسمة لنفسه، فيما يعهد لولي العهد بقيادة حملات جمع الضرائب التي يسمونها "الأمحال" ولذلك يدعى ولي العهد  بـ"باي الأمحال"، كما يفوض بعض صلاحياته لوزير عدله وهو نفسه المستشار أو الوزير الأول، حامل خاتم الأمير والمفاوض باسمه مع الأوروبيين.
أثار القناصل الأوروبيون، لا سيما قنصلي فرنسا وإنكلترا، مسألة الإصلاحات خلال عام 1956 بالتوازي صدور خط همايون التركي الشهير، مطالبين بحقوق الرعايا غير المسلمين، مستفيدين في ذلك من حادثة إعدام سائق يهودي سكران صدم طفلا تونسيا بسيارته وبادر إلى شتم الجلالة والإسلام والباي حين تجمهر حوله المارة. كان الهدف الضمني للقناصل تحصيل مكاسب لرعاياهم دون اللجوء لتطبيق مباشر لقرارات السلطنة العثمانية بل بقرار مباشر من الباي انطلاقا من حرصهم على قطع الصلات السياسية تدريجيا بين الإيالة التونسية والسلطة المركزية في إسطنبول. وقد استطاع القناصل أن يغلفوا أهدافهم التجارية المحضة بغلاف المطالب الحقوقية وشعارات إصلاح النظام وغيرها، فقد كانوا يستجيبون لطلبات مواطنيهم غير المعلنة في الحصول على الحرية المطلقة في التجارة ووضع حد لسيطرة المنتجات المحلية التي كانت تميل إليها الحكومة التونسية. 
كان يتم كل ذلك تحت غطاء المطالبة بإقرار دستور للبلاد وإنشاء محاكم مختصة، وبالفعل استجاب "الباي امحمد" ذو الشخصية والإرادة الضعيفتين للضغوط الأوروبية وأصدر قرارات بتكليف لجنة لصياغة الدستور، وإقامة محاكم تجارية وجنائية مختلطة، ومنح رعاياه المساواة المدنية والدينية وحرية التجارة بإسقاط كل القيود على الاستيراد وتوسيع حق الملكية للأجانب وتمكينهم من ممارسة جميع أنواع المهن والصناعات في الإيالة، وخضوعهم للقانون المحلي، وتمثل أول التدابير الإصلاحية في 1857 بالمزيد من الحريات التجارية للأجانب وبإعطاء اليهود حق اقتناء الأراضي وحرية اللباس، وهنا سقط القناع عن النية المبيتة للأوروبيين في الاستحواذ على البلد اقتصاديا عبر تمكين جالياتهم وتحصينها قانونيا، والمفارقة تبدت في تحول سلطات الباي، بموجب الدستور الذي شارك في صياغته الأوروبيون،  إلى سلطات تشريفية فيما زاد تسلط المماليك واستحواذهم على السلطة والثروة، حيث تضاعفت صلاحيات الوزير الأول ذي الأصوال اليونانية الذي يجيد الإيطالية لغة أوروبا بطلاقة ويلبس لباسا أوروبيا، أي أن ولم يحصل مواطنو تونس على ما كانوا يصبون اليه من نتائج الاصلاحات فيما تنعمَ الأجانب بنتائج الاصلاحات نفسها.

يعود الحديث اليوم عن الإصلاحات في تونس في خضم أزمة اقتصادية وسياسية مستمرة منذ نجاح الثورة الشابية على حكم زين العابدين بن علي عام 2011، وتتركز مطالب جمعيات ومنظمات المجتمع المدني (المرتبطة غالبا بأوروبا) على مشاريع قوانين من قبيل إلغاء تجريم المثلية الجنسية وإلغاء مفهوم رئاسة العائلة، وإلغاء مهر المرأة وإعفاء الأرملة من العدة... وغيرها الكثير من مشاريع القوانين التي قد يكون بعضها على جانب من الأهمية لكنها بمجملها لا تدفع بالمجتمع التونسي إلى الأمام سياسيا أو اقتصادياُ أو ثقافيا، شأنها شأن "اصلاحات" بن علي التي لم تترك أثراً إيجابيا ملموساً على حياة التونسيين رغم مرور سنوات طويلة على إقرارها، بل يبدو أن الضجة التي تثار مؤخرا لا تخدم إلا التعتيم على ما يحاك لتونس في الخفاء من سعي لجعلها حديقة خلفية مربحة اقتصاديا لفرنسا بتواطؤ لا يخفى من الدول الخليجية الفاعلة على الساحة التونسية.

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع