اذكر أننا في رابع أو خامس يوم من الحرب أجبرنا على اخلاء منزلنا.

 "ما بقي غيركن بالحي والشباب لازم يكونوا بمحل تاني، صار لازم تظهروا" . أربع  ليالٍ أم ثلاث، لا اذكر عددها لتشابهها، في ملجأ تحت عشرة  طوابق من الحجارة والحديد وأصوات تخلخل ثباتها فوق رؤوسنا. نجتمع في زاوية صغيرة من التقاءات جدرانه الاربعة، في حضن أقوى الدروع، بين يداي أمي وهي تردد "ان متنا، نموت معا.

 

صعبٌ على المرء أن يكون نازِحاً، بعيداً عن سريره والسقف الذي اعتاد النظر اليه طويلاً في ليالي الأرق. صعبٌ على المرء أن يسكن جدراناً باردة خالية من الذكريات، بلا اصوات ضحك وبكاء، تخلو من صور السهرات والحفلات وحتى جمعات العزاء، أن يترك خزانته المليئة برائحة العناقات العالقة على ثيابنا، أن يخرج من بيته بما عليه، وفي يديه يجمع ثروته، اغلى ما يملك، يدي أفراد اهله.

 

وصلنا الجبل بعد ساعات من قطع الطرق المزدحمة بالوجوه الضائعة. بيت كبير، بل في عيني ابنة الحادية عشرة يكاد يكون قصرا. هادئ جدا، حتى ان اصوات القصف والبكاء والصراخ والأبواق وضجيج الحرب كله صار زقزقة عصافير وحفيف اوراق شجر يحركها نسيم صيفي بارد قليلاً. 

 

وأتى القرار الثاني: "مثلنا مثل الاف من نزحوا، لملموا بعضكم سنذهب لمدرسة رسمية قريبة من هنا ونأخذ احد صفوفها منزلاً حتى نعود الى بيتنا". واقسم أنه رغم انني كنت ارى التعب في عيني أمي ويدي أبي، الا أنها كانت أجمل عطلة صيفية اقضيها رغم الحصار والدمار ومشاهد القصف والشهداء، وأجد لنفسي ألف عذر، فقد كنت طفلاً وليس اجمل للطفل من مكان جديد وحرية الاكتشاف وخوض المغامرات بعيدا عن اجواء الحرب.

 

وانقضت الايام، وكما غادرنا آخر الناس من "ضاحيتنا "، اعتقد أننا كنا آخر من يعود اليها، ليس لأننا تعلقنا بالمكان الذي كنا فيه، و لا لأننا اردنا التأكد من انتهاء كل شيء، فمن بقي تحت القصف لن تخيفه العودة الى محيطه، بل لأننا ما اردنا العودة اليه كان قد ذهب منا. سريري والحائط فوقه، والجدران المليئة بالذكريات، بأصوات الضحك والبكاء، وخزانتي العابقة برائحة العناقات صارت كلها رماداً، غباراً. 

 

وعمت بعدها الاحتفالات، احتفالات النصر طبعاً، اما انا فاحتفلتُ بأنني ما بكيتُ على بيتي، ما بكيت كالاطفال على ألعابي، كتبي وألواني وثيابي والصور المعلقة لي. انتصرت وما بكيت كما اراد لي عدوي، انتصرت كما انتصرت ام الشهيد حين لم تبكِ في تشييع ابنها، وكما انتصر الابناء حينما هتفوا مجددين الوعد العهد والولاء، وكما لا يزال ينتصر من يقاوم ويدافع.  

الذين انتصروا حقاً هم  فقط من يجاهدون بأنفسهم وعيالهم واعمالهم ومعاناة ظروف حياتهم، و لا تزال رايتهم واحدة، عالية، تصرخُ رغم الألم "لبيك".

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع