من السذاجة القول ان سبب الأزمة الإقتصادية التركية هو تبني حزب العدالة والتنمية الحاكم نظاماً دينياً إسلامياً فتركيا أبعد ما تكون عن النظام الإقتصادي الإسلامي والخطاب الديني الاردوغاني متكيف إلى أبعد الحدود في المجال الإقتصادي حتى يصح فيه القول إنه لا رابط بينه وبين الإسلام إلا الإسم وبعض القشور الشكلية التي يكاد يكون تأثيرها على الإقتصاد مجرد فكاهة، كما أنه من غير العلمي إعادة الأزمة إلى الأمور الغيبية وإعتبارها إنتقاماً إلهياً لمئات آلاف الأرواح التي أزهقتها ميليشيات إردوغان في العراق وسوريا في سعيها لتحقيق حلمه الطوراني، وإن كان من المفيد دوماً، في هذه الفترة خاصةً، التذكير بأنه منذ أشهر قليلة خلت كان الشعب العراقي الشقيق يعاني العطش بسبب سد "أليس" التركي الذي حجب مياه دجلة الخير لأهداف سياسية تركية رضخت لها الحكومة العراقية بذل، والتذكير أيضاً بسرقة ميليشيات تركية لآلاف المصانع وسكك الحديد وإهراءات الحبوب والقطع الأثرية السورية ونقلها إلى الأناضول بإشراف المخابرات التركية، بالتزامن مع تدفق عشرات آلاف الإرهابيين الوهابيين وآلاف الأطنان من الأسلحة والذخيرة عبر المطارات والموانئ التركية إلى الشمال والشرق السوري حيث عاثوا فساداً وشكلوا نواة تنظيم داعش الإرهابي الذي ظل وفيا لتركيا وأمدها بطوابير الصهاريج الشهيرة الممتدة على طول كيلومترات حاملةً نفط دير الزور إلى ميناء جيهان التركي حيث يصدر إلى "إسرائيل" بإشراف شركة بلال إردوغان.
لم يُخف هذا الجانب المظلم، الذي يجب ألا ننساه قط، جانباً آخر يستحق الإحترام –بأسى- وهو حالة التضامن الوطني من قبل جميع فئات المجتمع التركي، الإسلامية والعلمانية، والشعور القومي العارم بالمسؤولية تجاه عملة البلاد، وهو ما تبدى في الإعلام المؤيد والمعارض على حدٍ سواء، وفي الفضاء الالكتروني وفي عروض شركات السياحة والفنادق التي إصطفت جميعها خلف القيادة السياسة لمواجهة الأزمة الإقتصادية، لا بسبب فرض السلطات القضائية لرقابتها على وسائل الإعلام للحد من تأثير "الشائعات" بل لاستيعاب طيف واسع من الشعب دروس الدول المجاورة بأن العقوبات الإقتصادية تطاله بشكل مباشر ولا تنحصر بالقيادة السياسية، بخلاف ما شهدناه على المستوى الشعبي في بلادنا العربية من تشرذم في الموقف الوطني تجاه الأزمات المصيرية، ولنا خير مثال في النموذج المصري حيث إنحاز فريق عريضِ القاعدة ضد إقتصاد بلاده بكل وقاحة، وفي النموذج السوري الذي مثله فريق المعارضة الذي بالغ في المطالبة بفرض عقوبات إقتصادية على شعب بلاده.
بدا الرئيس التركي وحده متخلفاً عن العامة حيث لجأ لمواجهة الأزمة بخطاب شعبوي يُجهّل الأسباب الجوهرية ويرتكز على فكرة المؤامرة وعبارة "لهم الدولار ولنا الله" التي تصلح للتندر بوجود عبارة مشابهة هي (In God   We Trust) أي "بالله نثق" على أوراق الدولار، وبالمجمل فقد تغافل إردوغان عمدا عن جوهر الأزمة مخفياً عن شعبة أن الأزمة الإقتصادية في بلاده إنما هي أزمة ديون حيث ترتفع مستويات الدين الخارجي للقطاع الخاص، تماماً كما يرتفع الدين الحكومي بالعملات الأجنبية، إرتفاعٌ يقابله تمويل أجنبي كثيف للمصارف التركية متزامن مع إنخفاض لمستوى الفائدة.
عزا إردوغان أسباب الأزمة إلى تغريدة الرئيس الأمريكي والعقوبات الأمريكية معتبراً أنها مؤامرة كونية على نظام حكمه، رغم أن العقوبات الأمريكية طالت وزيرين فقط من حكومة جاويش أوغلو الحالية، فيما يمكن القول أن إعلان ترامب فرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألمنيوم التركية يندرج ضمن سلسلة قرارات حمائية كان ترامب قد تعهد بها خلال حملته الإنتخابية وهو ينفذ بعضها تباعاً بطريقته "الفجة" لذلك يصح القول أنها غير موجهة إلى تركيا حصرا فقد سبقتها إجراءات مشابهة ضد أوروبا، وهو ما يؤكد أن الحديث عن مواجهة أمريكية تركية وإحتمالية إبتعاد إردوغان عن الناتو وإنحيازه الى روسيا وإيران والصين يكاد يكون ضرباً من الخيال المعتمد على مناورات إردوغانية باتت مستهلكة، ولعل مسارعة أمير قطر لإنقاذ الإقتصاد التركي بحزمة إستثمارات، بقيمة 15 مليار دولار، أبلغ دليل على عدم صوابية هذه الرؤية بإعتبار قطر وشقيقاتها الخليجيات مجرد حافظة نقدية أمريكية لا يمكن أن تفتح لأحد إلا بقرار البيت الأبيض أو موافقة منه.
هذه الفقاعة الاقتصادية التي لطالما تباهى بها جمهور إردوغان في العالم العربي وجعلوها أمثولةً يقارنون بها إقتصادات المنطقة، يبدو أنها معرضة دوماً للإنفجار في حال نقص التدفقات الأجنبية لأي سبب، لذلك فمن غير المنطقي الانسياق خلف حملة "التهريج" التي يقوم بها هؤلاء لدعم الليرة التركية والإقتصاد التركي، للأسباب الأليمة الآنفة الذكر ولأسباب كثيرةٍ أخرى، لكنه من غير المنطقي أيضاً إنتظار تهاوي الإقتصاد التركي بفرح وإستبشار إذ أن تدمير إقتصاد قوي وازن في الإقليم، كتركيا، لا شك ستتخطى مفاعيله الحدود وربما تصيب شظاياه عموم المنطقة.

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع