العدو الإسرائيلي ينقّب عن النفط قرب الحدود اللبنانية، ولبنان يبتعد منها 25 كيلومتراً. تلك معادلة تناسب إسرائيل لكنها حكماً لا تناسب لبنان. فكيف يمكن الحديث عن خيار تقني للابتعاد من الحدود والتنقيب شمال الرقعة اللبنانية رقم 9، فيما التطورات الإسرائيلية والتوجه للتنقيب شمال «كاريش» تؤكد أن الأولوية التقنية - السياسية يجب أن تكون للحفر عند الحدود، خصوصاً في ظل احتمال وجود مكامن مشتركة؟ ألا يُعد ذلك تسليماً بشريط حدودي بحري يفرضه العدو كأمر واقع؟
عندما حذّر الرئيس نبيه بري من الأعمال التي تجرى شمال حقل «كاريش» القريب من الحدود اللبنانية - الفلسطينية، اعتبر أن المطلوب «تحرك سريع لمنع الاعتداء على الحق اللبناني». فالتنقيب في تلك الرقعة يمكن أن يؤدي إلى الاعتداء على المكامن المشتركة، في غمرة الإجازة اللبنانية الطويلة المرتبطة بعدم القدرة على تشكيل الحكومة.
صحيح أن الاستكشاف في «كاريش» ليس جديداً، إلا أن الجديد كان إعلان الشركة اليونانية «إنرجيان»، التي تملك ترخيص التنقيب في الموقع المذكور، أن آذار 2019 سيكون موعد بدء التنقيب شمال الحقل. وقد أتى الإعلان الجديد بعد أن كانت بدأت عمليات التنقيب في الموقع في العام 2013 من قبل تجمّع «نوبل» الأميركي وشركتي «دليك» و«افنر» الإسرائيليتين، حيث تم حينها استكشاف نحو 3 ترليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي. لكن لاحقاً تم نقل الرخصة، التي تحولت إلى رخصة تطوير وإنتاج، إلى الشركة الإيطالية - الفرنسية إديسون، ومن ثم في آب 2016 إلى الشركة اليونانية «إنرجيان» (حجم أعمالها أقل من 100 مليون دولار) بسعر بخس جداً لا يتجاوز 100 مليون دولار (تدفعه الشركة لحكومة العدو)، علماً أن مصادر مصرية تتحدث عن أن العقد بقيمة 60 مليون دولار فقط. وأكثر من ذلك، فقد تعهدت الحكومة الإسرائيلية بإيجاد سوق داخلية للغاز المنتج، بما يلغي أي أخطار في التسويق. ولم يتم الاكتفاء بذلك، إنما سمح لـ«إنرجيان» باستكمال التنقيب والتمدد شمالاً.
لم تنته قصة «كاريش» هنا. فبمساعدة أوروبية، وبخاصة فرنسية، تم تمويل «إنرجيان» الضعيفة والمفتقدة للملاءة لتطوير الحقل الذي تتجاوز كلفته المليار ونصف المليار دولار. والدور الفرنسي لم يقتصر على ذلك، فعمليات تطوير الحقل في المياه العميقة، ستتم بمساعدة من شركة «تكنيب» الفرنسية، كما ستشمل المساعدة تأمين سفينة التخزين العائمة التي تبنى في الصين، بمساعدة القطاع الخاص السنغافوري، على ما يؤكد خبير نفطي مطلّع.
أما عمليات التنقيب، وبخاصة تلك التي ستجرى في آذار المقبل، شمال «كاريش» أي على بعد كيلومترات قليلة من الحدود اللبنانية، وربما تصل إلى داخل الأراضي اللبنانية، فستقوم بها شركة «ستينا دريلينغ» البريطانية وبحفّارات من إسبانيا. وبحسب الدراسات المنجزة، من المتوقع استكشاف نحو 1.3 ترليون قدم مكعبة في شمال كاريش، تضاف إلى نحو 0.5 في شرقه ونحو 0.5 أخرى في غربه (إضافة إلى 3 ترليونات تم استكشافها سابقاً)، مما يرفع الموجودات المؤكدة في الحقل إلى أكثر من 5 ترليونات قدم مكعبة. وهذا يعني عملياً تصنيف حقل «كاريش» كأحد الحقول الثمينة والهامة بالنسبة للشركات.
الخطر لا يقتصر على عمليات التنقيب بحد ذاتها. فبحسب دراسة الأثر البيئي التي أعدتها الشركة الهندسية البريطانية المتخصصة بالبيئة ERM (يمكن قراءتها على الرابط التالي:https://www.energean.com/corporate-responsibility/workplace-health-and-safety/esiaprinos-development/) يُستنتج أن أي تلوّث يحصل في «كاريش» سينتقل بغضون دقائق إلى المياه الإقليمية اللبنانية ثم إلى رأس الناقورة، وخلال ساعات قليلة إلى صور...
وفي مقابل سير العدو الإسرائيلي بخطوات ثابتة باتجاه تطوير حقل «كاريش»، بمواكبة وتغطية واضحة من دول أوروبية بعضها ممثَّل في اليونيفيل، يمعن اللبنانيون بالاستهتار وتضييع الفرص وتعزيز الموقع الإسرائيلي نفطياً. فإلى جانب التجميد المستمر لمسألة التنقيب في البر (بدأت مرحلة التلزيم في الجانب الآخر من الحدود، لا سيما مقابل الناقورة وعند الحدود الجنوبية الشرقية)، بسبب الخلافات السياسية التي تحول دون إقرار قانون عصري لحوكمة النفط بالبر، لا يبدو التنقيب في البحر أفضل حالاً. لكن أخطر ما يقوم به الجانب اللبناني هو الصمت المطبق عن كل ما يجري، وهو أمر يتكامل عملياً مع الغطاء الدولي غير المسبوق الذي تحوز عليه إسرائيل، من دون اكتراث جدي إن كان في الموارد التي يمكن أن تُسرق أو للتلوث الذي يهدد الشواطئ اللبنانية جدياً.
ليس الصمت وحده ما يستغربه خبراء نفطيون متابعون للنشاطات النفطية التي تجرى في شرق المتوسط، إنما يستغربون أيضاً اللامبالاة الرسمية في تأجيل تجمع الشركات الذي تقوده الشركة الفرنسية «توتال» الاستكشاف في لبنان من الفصل الأول من العام 2019 (الرقعة رقم 4) إلى الفصل الثالث من العام 2019. وهذا يعني حكماً تأجيل الاستكشاف في الرقعة 9 حتى بداية العام 2020، أي بعد نحو عام من عمليات التنقيب الإضافية في شمال «كاريش» (آذار 2019). ليس هذا فقط، المشكلة الأكبر أن موقع التنقيب في الرقعة رقم 9، حدد في شمالها، أي على بعد نحو 25 كلم من الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة. وهنا تسأل المصادر سؤالاً لا بد للسلطات اللبنانية من الإجابة عليه: هل ثمة من يريد أن يكرس هذا الابتعاد عن الحدود البحرية كشريط بحري واقعي؟ وإذا لم يكن ذلك صحيحاً، فلماذا الصمت عن التراجع اللبناني الطوعي عن الحدود لمسافة 25 كلم (أعلنت شركة «توتال»، في شباط الماضي، ابتعادها عن «المنطقة المتنازَع عليها» مسافة 25 كلم)، مقابل لامبالاة إسرائيلية تنعكس في الحفر قرب الحدود اللبنانية؟ وحتى مع افتراض أن للشركة الفرنسية «توتال» مصلحة في ذلك، إن كان لأسباب تقنية أو لأسباب سياسية مرتبطة بمصالح فرنسية متداخلة في المنطقتين الاقتصاديتين اللبنانية والفلسطينية المحتلة، فأين تكمن المصلحة اللبنانية في التسليم بهذا الواقع؟ وحتى لو كان الموقف اللبناني الرسمي يقلل من أهمية قرار الشركة التنقيب في شمال الرقعة رقم 9 لا في جنوبها، انطلاقاً من أن هذا القرار تقني بحت ومبني على معلومات جيولوجية ومسوحات ثلاثية الأبعاد، فكيف يمكن تفسير إشارة خبراء نفطيين إلى معرفة شركات مهتمة بالتنقيب في لبنان بغنى المناطق الحدودية، من صور إلى الحدود البحرية الجنوبية (الرقعة 10) ومن الشاطئ اللبناني إلى الحدود القبرصية (الرقعة 8)، كما في الرقعة الوسطى (رقم 9)، بالغاز الطبيعي الصافي والبترول (بخاصة قرب السواحل)؟ ألا يعني ذلك أنه من مصلحة لبنان، تقنياً، الحفر في كل الرقع الحدودية، لا سيما في المناطق الأكثر تعرضاً للتهديد أي جنوب هذه الرقع؟
بحر الشرق
يعتبر شرق البحر المتوسط من مصر إلى سوريا، مروراً بفلسطين وقبرص ولبنان وريثاً لبحر الشمال الذي كانت النروج واسكتلندا ركيزتاه الأساسيتان وتليهما هولندا والدنمارك من حيث الأهمية. في «بحر الشرق» ستكون الركيزتان هما مصر وإسرائيل (مصر بالدرجة الأولى) فيما يليهما بالأهمية لبنان وقبرص. وعملياً، فإن هذا السيناريو يعني أن أوروبا ستعتمد على هذا الشرق، ولو جزئياً، لمدها بالغاز، على رغم أن الألمان لا يزالون الأقل حماسة لهذا الخيار، بسبب رغبتهم باستقرار طويل الأمد للإمدادات النفطية.