كان يستيقظ قريب أذان الصبح، يصلّي ويقرأ شيئاً ثم يجلس ليكتب بهدوء فلا تشعر به بتاتاً. كثير الاستماع لأجوبة أسئلةٍ قليلة يسألها. لا تعرف رأيه إلا إذا أراد رأيَ أحدهم به. هكذا كان كل يوم خلال جولته على مناطق الحرب وبيوت الناس والمجاهدين لأيام متتالية، تعرّف فيها على أكثر شخصيات مجتمع المقاومة. في أحد اللقاءات جلس عند عائلة شهيد لساعات متواصلة على حافة الكرسي ويداه يجمعهما تحت ذقنه يستمع بكل تركيز. بعد ذلك لفترة، تابع البحث من خلال الأصدقاء والباحثين والمطالعة عن تفاصيل لم يفهمها أو سقطت من مسجّلته التي لم تفارقه. 
الحاج ابراهيم زار لبنان مرات عديدة بحثاً عن ضالة أي كاتب ومخرج، حتى جاءت حرب الوحوش في سوريا والعراق، فجال في سوريا أواخر الحرب والتقى بالمجاهدين والقادة والناس أيضاً. لكن بقي السؤال الرئيسي الذي كان دائماً يلاحقه بلا إجابة، خاصة بعد انتصار لبنان في تموز عام 2006 وهو: متى ستنتج فيلماً عن المقاومة يا سيد حاتمي كيا؟
كان جوابه الدائم: أنا لا أعرف الناس هنا ولا مشاكلهم وقضاياهم، فكيف يمكنني أن أتحدث معهم؟ إنني أحاول، لأن فيلمي يجب أن يحاكي الواقع المعيشي والاجتماعي ويمسّ المشاعر واليوميات والمسائل التي يمكنني التطرق إليها ومعالجتها في الفيلم، وإلا فلن يستفيد أحد منه ولن يتعلق به المشاهد.

في فيلم "تشي" عالج حاتمي كيا قضايا وتساؤلات كثيرة في حياة المجتمع الايراني، مُختاراً 48 ساعة من حياة الشهيد مصطفى چمران عندما توجه إلى "باوه" المحاصرة. تطرق إلى علاقة القوات المدافعة ببعضها بعضاً وارتباطها بالقيادة والولي وكيف يمكن تنفيذ الأوامر العليا في الميدان، وكذلك الصراعات السياسية ووجهات النظر في السنوات الأولى للثورة الجديدة. كان حينها الشهيد مصطفى شمران مندوب الإمام في وزارة الدفاع وتوجه إلى نقطة متقدمة جداً في المعركة.

في فيلم "باديغارد" ربط المخرج جيل الحرب بجيل اليوم وعالج الدور الجهادي لشباب الثورة الجدد في معركة العلم والتقدم، والمحيط الاجتماعي لهؤلاء الأفراد، في جو من تساؤلات سادت المجتمع الايراني في مرحلة احتمالات الحرب على ايران وظهور داعش وقتالها في محيط الدولة، فكان اسم فيلمه "الحارس الشخصي". في هذا الفيلم استنتج الجمهور أنّ شخصية البطل الذي لعب دوره الممثّل الإيراني المشهور "برویز برستویی"Parviz Parastoui  هي الحاجّ قاسم سليماني لما في الشكل والدور من تشابه، وذلك بالتزامن مع انتصارات إيران في مواجهة الحرب التكفيرية في المنطقة بقيادته. 
"به وقت شام" بالفارسية أي "بتوقيت الشام" هو الفيلم السينمائي الطويل رقم 17 للمخرج الثوري الحاج ابراهيم حاتمي كيا. بعد فترة ابتعد فيها عن الموضوعات الثورية والجهادية عاد الحاج ابراهيم ليقدّم فيلمه الثالث بعد "تشي" و "بادیغارد" الذي تجري وقائعه في سوريا في قصة تتحدث عن المقاتلين الايرانيين خلال رحلة جوية عسكرية بين العاصمة ومناطق الحرب. نشاهد فيه الحلفاء والأعداء بأدوار مختلفة، لكن يبقى الموضوع الرئيسي في الفيلم هو الايراني، الذي يظهر في حوار بين أب وابنه وكلاهما طيّاران قد وقعا في مأزق في ظروف عسكرية صعبة للغاية.
من الواضح أن المخرج عمل جاهداً ليجد قصة في مناطق الحرب والمقاومة خارج الحدود يكون اللاعب الأساسي فيها والقصة عنصرَا رغبة بالنسبة لمخاطبه الرئيسي وهو الداخل الايراني الذي يستطيع بكل راحة أن يتواصل معه ويكون قريباً منه ومجيباً عن شؤونه وتساؤلاته، خاصة السؤال الرئيس وهو  "لماذا نذهب إلى الحرب خارج حدود بلدنا؟" خاصة في ظل الدعاية والتناقضات التي حملتها فتنة الشام.
الفيلم الذي بدأ عروضه خارج ايران في دوائر ضيقة يخترق فيها الحصار على الانتاج الايراني حتى لو كان قصص أطفال مثل "الفيل الملك"، هذا الفيلم الذي يتحدث عن العدوان العالمي على سوريا لَأَحقّ بالمواجهة والمنع، لكنه تجاوز الآن بعض العقبات ليطل عبر الشاشة الكبيرة في عدد من صالات لبنان بعد البدء في سوريا والعراق.
"بتوقيت الشام" هو أول فيلم للحاج ابراهيم تجري أحداثه وجزء من انتاجه خارج ايران، ولهذا لم يحافظ على المستوى المعروف لقصص حاتمي كيا العميقة والمعقدة في المحتوى والرسائل، لكنه حافظ على قوة السيناريو وعناصر التشويق وتقديم شخصيات شائكة وملتبسة للعدو الجديد الذي لم يحتك به عن قرب، خلاف أفلامه السابقة التي تحكي قصصاً عاش المخرج أحداثها شخصياً، فهو شارك في الحرب العسكرية وكذلك في الصراعات الداخلية لشعبه. لكنه هنا لم يوفق إلا بمجموعة زيارات ومشاهدات وتحقيقات الخبراء والمقاتلين وقادة الحرب خارج إيران.
حاتمي كيا اليوم هو المخرج الأول والمنفرد في تقديم الأفلام الثورية الواحد تلو الآخر ولديه جمهور كبير ينتظر فيلمه من الناس والنقّاد على حد سواء. وهو من أصحاب المواقف الصلبة والقاسية، من صنّاع السينما في ايران الذين ما زال الكثير منهم بعيدين بنسبة لا بأس بها عن السينما الثورية التي ساهم في تأسيسها فكرياً الأستاذ مرتضى آويني الذي استشهد خلال تصويره فيلماً وثائقياً في مناطق الحرب المفروضة من حزب البعث العراقي على ايران (1988/1981) وذلك بعد أن داس على لغم أرضي في منطقة "فكه" عام 1993.
بين حاتمي كيا وآويني علاقة وطيدة. إذا كان آويني قد أنتج أكثر من مئة فيلم وثائقي قصير عن الحرب والثورة، فإن حاتمي كيا أنتج جزءاً مهماً من أفلامها السينمائية.
"بتوقيت الشام" يشعرك بالعزة والثبات، يشعرك بقيم تنفرد بها اليوم هذه الثلة من عشاق الولاية والاسلام المحمدي الأصيل الذي يتعرض لأبشع مراحل المسخ والتشويه على مدى التاريخ. تسعون دقيقة من وقت الجمهور تحكي صوراً من التضحيات وكذلك الوعي والبصيرة وحكايات صنعت في لقاء الحلفاء من سوريا ولبنان في أرض المعركة. ولكنه لم يخل من التراجيديا التي تطبع أغلب الأفلام الإيرانية. فشهادة البطل في النهاية مثلاً، نتيجة يتوقعها أغلب متتبعي هذه السينما. هي سينما إنسانية برزت عالمياً لكن صانع الأفلام الإيراني ماهر في تقديم المأساة التي تكاد لا تغيب عن أدبياته وفنونه، لكنه في نفس الوقت يقف بصلابة مقابل فكرة الهروب من الحرب بأي ثمن كان، فهي أفلام الألم مع الكرامة، مليئة بالعبر والقيم المنقولة حرفياً أحياناً من أرض المعركة على خلاف الأفلام الأميركية عن فييتنام كما يقول الشهيد باسل الأعرج التي سرقت قصص المقاتلين الفيتناميين مثلاً وقدّمتها باسم الجنود الأميريكيين ليضيفوا بعض الرومانسية المفقودة في معركتهم.

لم يحظَ هذا الفيلم بالاهتمام الجيد من الجمهور خارج إيران، وخاصة في لبنان، فالحملة الإعلامية ضعيفة جداً دون مواكبة جدّية من أصحاب هذا الفن، في حين تعصف في المنطقة أحداث وقضايا سياسية تملأ الفضاء الإعلامي بما يشغل الجمهور ويؤثّر على شبابيك التذاكر.

الفيلم الإيراني يوماً بعد يوم يتجاوز الحدود ولو متأخراً ومتواضعاً بعد أربعة عقود من الثورة الإسلامية في إيران. قناة "آي فيلم" ساهمت كثيراً في رفع مستوى مشاهدة المسلسلات التلفزيونية والأفلام السينمائية الإيرانية، فمتابعوها يزدادون، خاصة أن عدداً من المسلسلات التي راجت في المرحلة الأخيرة مثل "يوسف الصدّيق" و "المختار الثقفي" تركت انطباعاً إيجابياً لدى الجمهور الذي بات يترقب الانتاج الفارسي يوماً بعد يوم. 
 

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع