لأن لا حكومة ولا مشاورات حكومية، فلا حاجة لأن يبقى الرئيس المكلّف سعد الحريري في بيروت. طائرته حملته أمس إلى باريس، في إجازة من التشكيل هي أشبه بالاعتكاف، على رغم نيته العودة قريباً. ويعوّل فريق الحريري على غيابه، لخفض «السقوف العالية» التي لا تزال تحول دون البدء بالبحث عن مخارج جدية للعقبة الأخيرة التي تمنع تأليف الحكومة: سنّة 8 آذار. هؤلاء النواب لم يكونوا ليتوقعوا أن الحكومة يمكن أن تقف على تمثيلهم. مع ذلك، فهذا أمر يحسبونه لحزب الله، الذي يجدونه متمسكاً بحقهم في التمثيل. حتى اللحظة، يبدو أن الحزب «ارتكب خطأ تكتيكياً». فسياسة التفاوض «السري» التي سبق أن جرّبها مع وسطاء إطلاق الأسرى من معتقلات العدو، تبدو غير ذات فاعلية في الداخل اللبناني. فالعلنية جزء من أسلحة المعركة.


طوال الأشهر الخمسة الماضية، كان أطراف التفاوض يتراشقون التهم بالتعطيل، محيدين حزب الله وحركة أمل. ساهم الثنائي في حلحلة الكثير من العقد (عقدة التمثيل الدرزي، عقدة تمثيل المردة، فضلاً عن مشاركة حزب الله في تذليل مشكلة وزارة المالية)، وكان رئيس الحكومة المكلف يكيل المديح لخصومه في الضاحية، بسبب عدم مساهمتهم في العرقلة. ارتكب الحزب خطأ بعدم إعلان مطالبه على الملأ، مستنداً إلى قاعدة «سرية المفاوضات» التي طالب باعتمادها أمينه العام السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير (19 تشرين الأول). لكن هذا الأمر انقلب عليه. فحتى حلفاؤه الذي يخوض معركة توزيرهم الآن، سبق أن سلموا أنهم لن يكونوا جزءاً من الحكومة. في 15 تشرين الأول الماضي، كان النائب فيصل كرامي صريحاً إلى أبعد الحدود في حديثه عن «حرماننا من حقنا الطبيعي في التمثل حكومياً على مرأى ومسمع من فريقنا السياسي».
وإذا كان حزب الله لم يُبشر حلفاءه بالخير، فقد كان ذلك واضحاً عند كل من يتابع تشكيل الحكومة: العقدة السنية لن تكون عقبة في وجه التشكيل. حتى الرئيس نبيه بري كان، حتى نهاية الأسبوع الماضي، يبشّر بقرب ولادة الحكومة، ويجيب سائليه بأن تمثيل «سنة 8 آذار» لن يكون عقدة. كما لم يكن وزير الخارجية جبران باسيل يصدّق، فجر الاثنين الماضي، بأن مصير الحكومة متوقف على مقعد حكومي لـ«سنة 8 آذار».

فما الذي تغير؟
حتى الآن لا أحد يملك الجواب سوى حزب الله نفسه والرئيسين ميشال عون وسعد الحريري. والمفارقة أن كل فريق من ثلاثي عون - الحريري - حزب الله، تعامل في المفاوضات على قاعدة رمي الكرة في ملعب الآخرَين. حزب الله يرى حل العقد مسؤولية الرئيسين. وعون يراها مشكلة بين حزب الله والحريري، فيما الأخير يعتبر نفسه خارج دائرة التنازل، وكان يتوقع أن تُحل المشكلة بين شريكي تفاهم مار مخايل.
رئيس الجمهورية تحدث في مقابلته أول من أمس عن خطأ في التكتيك (لم يسمّ حزب الله، لكن السياق يوحي بأنه كان يقصده) فعن أي تكتيك يتحدث؟ هل في ذلك إشارة إلى استغلال حزب الله لأزمة التمثيل السني لتعطيل تشكيل الحكومة؟ وإن كان صحيحاً، فلماذا لا يريد حزب الله حكومة الآن؟ فريق الهجوم على المقاومة في لبنان سارع إلى ربط القضية، كما دأبه في كل أمر مهما صغر أو كبر، بالمفاوضات الجارية إقليمياً، وبخاصة بشأن العدوان على اليمن. يعتقد هؤلاء أن حزب الله يرى السعودية في موقف حرج، فلماذا سيعطي حليفها في لبنان ما يجعلها أكثر اطمئناناً، فيما المطلوب منها دولياً تقديم التنازلات؟
في المقابل، لماذا كان رئيس الجمهورية حاداً في موقفه الرافض لإعطاء سنة 8 آذار مقعداً من حصته؟ ولماذا لا يلتقط فرصة توزير فيصل كرامي، ويحوّلها إلى حجر يرمي به عصفورين دفعة واحدة: احتضان «سنة المعارضة» بما يُبعِدهم عن سليمان فرنجية؛ وإدخال كرامي إلى مجلس الوزراء حيث سيقف في المرصاد لوزراء القوات اللبنانية الذين لا برنامج عمل لهم سوى إفشال وزراء التيار الوطني الحر؟ أليس في ذلك مردود أكبر من مردود توزير شخصية سنية لا حيثية شعبية لها، كفادي عسلي أو أحمد عويدات؟ ترفض مصادر 8 آذار هذه الأسئلة، معتبرة أن المشكلة هي في ملعب الحريري، لا بين عون وحزب الله اللذين سيؤكدان مجدداً قوة تحالفهما.
سؤال إضافي يُطرح حالياً: لماذا أراد عون أن يظهر كمعارض علنيّ لتوجه حزب الله في هذا الوقت تحديداً؟ ولماذا لم يلجأ إلى قنوات التواصل المعتادة بين بعبدا وحارة حريك؟ هل لذلك أي رابط بالعقوبات المتوقعة على الحزب، والتي تكثر الإشارة إلى أنها ستطاول مقربين وحلفاء له؟ تعلّق مصادر في 8 آذار على السؤال الأخير باعتباره سخيفاً ولا داعي للتعليق عليه. فعندما كان عون مهدداً بشخصه من قبل الإسرائيليين والأميركيين، رفض أن يتنازل عن دعم المقاومة، في خضم عدوان تموز 2006 وبعده. وبالتالي، لا قيمة لأي تهديد في قاموس رئيس الجمهورية.
وماذا عن الحريري؟ ألا يرى نفسه معنياً بقراءة ما يجري حالياً من منظار يتجاوز اختزال الأزمة بـ«أن الأيام أثبتت صحة موقفي، وها هون عون يبتعد عن حزب الله»؟ ولماذا يمنحه حليفا مار مخايل ما يخوله اللعب على هذا الوتر؟


ما تقدم ليس سوى تحليلات تحيد عن السبب المباشر، بحسب مصادر في «8 آذار»، تؤكد أن الحزب يتعامل مع الموضوع على قاعدة أنه «كما كان وفياً مع حلفائه طوال السنوات الماضية، وتأخرت ولادة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي 8 أشهر من أجل توزير جبران باسيل في الطاقة، وكما عطّل كل المؤسسات الدستورية سنتين ونصف السنة من أجل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، فإن «أصول الوفاء» في السياسة أن يقف مع حلفائه الذين وقفوا إلى جانبه منذ عقود وعانوا ما عانوه من تكفير سياسي وغير سياسي، خصوصاً بعد العام 2005».
وقالت المصادر إنه يستحيل أن يضع الحزب نفسه في موقف السجال مع رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر، وهو إن كان لديه ما يقوله له، فإنما يقوله عبر التواصل المباشر وليس عبر الاعلام.
كذلك تؤكد المصادر أن «الحزب لم يفتعل المشكلة الآن، إنما كان يطرح مسألة تمثيل حلفائه في الحكومة مع الحريري كل الوقت. وعندها كان الحزب، باعتراف الحريري، من أكثر القوى تسهيلاً لتأليف الحكومة، كان الرئيس المكلف يتهم، عبر مقدمة تلفزيون المستقبل ومانشيت جريدة المستقبل، الوزير جبران باسيل بالتعطيل، فيما كان التيار الوطني الحر يتهم الحريري حيناً، والقوات أحياناً، بتأخير التأليف». وتستغرب المصادر «قبول الجميع» بتوقف تأليف الحكومة خمسة أشهر على بند حصة القوات، من دون أن ينتظر أحد خمسة أيام قبل بدء الهجوم على حزب الله واتهامه بالتعطيل بذريعة الأوضاع الإقليمية». وتشدد المصادر على أنه كما أن حزب الله رفض إلباس «العقدة القواتية» لبوساً خارجياً، فإنه يرفض اتهامه بالتعطيل لأسباب غير لبنانية.
في جميع الأحوال، لا يرى حزب الله نفسه «مضغوطاً». لكن ذلك لا يعني أن قيادته لن تكون مضطرة إلى مخاطبة جمهورها بالدرجة الأولى، وعموم اللبنانيين، لشرح وجهة نظرها، ووضع النقاط على الحروف...

المصدر: الأخبار