لن يكون بمقدور لبنان الالتزام سريعاً بما ورد في مؤتمر «سيدر» لجهة خفض العجز المالي بمعدل 1% من الناتج سنوياً، بل على العكس تشير النتائج المالية عن الأشهر الستة الأولى من السنة الجارية بأن العجز المالي تدهور أكثر وبات على مسار تصاعدي في ظل ركود اقتصادي، وتضخّم في الأسعار، وارتفاع جنوني في أسعار الفائدة...

أصدرت أمس، وزارة المال ملخص الوضع المالي عن الأشهر الستة الأولى من السنة الجارية. النتائج كشفت عن تضاعف العجز المالي في هذه الفترة أكثر من ثلاث مرات. ففي حزيران 2017 كان العجز 1368 مليار ليرة، ثم ارتفع في حزيران 2018 إلى 4577 مليار ليرة، أي بزيادة قيمتها 3208 مليارات ليرة ونسبتها 234.5%. تدهور العجز سببه زيادة النفقات وتراجع في الإيرادات. النفقات زادت بنسبة 28.8% أو ما قيمته 3029 مليار ليرة لتبلغ 13533 مليار ليرة في نهاية حزيران 2018 مقارنة مع 10503 مليارات ليرة في الفترة نفسها من السنة الماضية. أما الإيرادات، فقد تقلصت بنسبة 1.97% على رغم أن تقديرات وزارة المال كانت تشير إلى أن الضرائب التي أقرّت في أيلول الماضي من أجل تمويل سلسلة الرتب والرواتب سترفع الإيرادات بقيمة 1800 مليار ليرة. حساب الحقل خالف حساب البيدر، فالإيرادات تراجعت من 9135 مليار ليرة في حزيران 2017 إلى 8955 مليار ليرة في حزيران 2018. 


تمويل انتخابي
أبواب النفقات الإضافية واضحة المعالم وهي تتراوح بين التحويلات التي انطوت على أهداف انتخابية، وبين انعكاسات دعم الكهرباء وارتفاع سعر برميل النفط، وتسديد فوائد الدين العام وكلفة سلسلة الرتب والرواتب. ففي هذه الفترة أجريت الانتخابات النيابية وسط شحّ في التمويل الانتخابي الخاص. لم يطل الأمر قبل أن تتضح الصورة. قوى السلطة عمدت كعادتها إلى استعمال المال العام من أجل تمويل حملاتها الانتخابية، سواء عبر زيادة الإنفاق عبر البلديات أو تحويلات مالية لتنفيذ مشاريع عبر بعض الوزارات المعنية. أرقام الخزينة تظهر أن التحويلات إلى البلديات ارتفعت خلال ستة أشهر بنسبة 333.8%.
كذلك ارتفع سعر برميل النفط إلى أكثر من 75 دولاراً ما انعكس سلباً على التحويلات المالية من الخزينة إلى مؤسسة كهرباء لبنان بين ما هو مقدّر في الموازنة العامة على أساس سعر برميل النفط بقيمة 60 دولاراً وبين الفعلي المنفّذ على الأسعار الفعلية. هذه الزيادة في سعر النفط، فضحت عمليات التجميل التي قام بها مجلس الوزراء عند مناقشته مشروع موازنة 2018 بعدما وضع التحويلات المالية إلى مؤسسة كهرباء لبنان خارج الموازنة وحدّد كلفة التحويلات على أساس سعر برميل النفط في تلك الفترة من دون احتساب الزيادات المتوقعة على السعر والتي كانت سترفع كلفة التحويلات بنحو 800 مليار ليرة. يومها كان الهدف التخفيف من العجز المالي في مشروع موازنة 2018 التي أقرّت على عجل تمهيداً لانعقاد مؤتمر باريس 4 المعروف باسم «سيدر».
على أي حال، تبيّن أنه في نهاية حزيران 2018، استحوذ الدين العام وفوائده على جزء مهم من الزيادة في النفقات. كما تبيّن أن كلفة سلسلة الرتب والرواتب كانت أكبر من تقديرات وزارة المال. إلا أن المشكلة لا تكمن في هذا الإنفاق بالتحديد، استناداً إلى تقرير البنك الدولي الأخير الذي يصف فيه فاتورة الأجور لموظفي القطاع العام في لبنان بأنها «ليست مفرطة مقارنة بدول أخرى شبيهة»، بل هو يرى أن النفقات كلّها «منعدمة المرونة مما يحدّ من الحيّز المالي اللازم للتفاعل مع الصدمات».

حساب مخيب للتوقعات
أرقام الإيرادات تشكّل مفاجأة أكبر من أرقام النفقات. ففي السنة الماضية، أقرّ مجلس النواب سلّة من الضرائب الجديدة أو زاد معدلات ضرائب معمول فيها (بهدف تمويل كلفة سلسلة الرتب والرواتب). أُقرّ 22 بنداً ضريبياً بهدف تحصيل أكثر من 1800 مليار ليرة. النتائج حتى الآن جاءت مخيبة لكل التوقعات، فالتحصيل عبر الخزينة تراجع بنسبة 1.97% بدلاً من أن يزداد. وإذا استمر هذا المنحى الخطير، فإن الوضع السلبي سيتحوّل سريعاً إلى وضع كارثي. يُضاف إلى ذلك أن الذين تعهدوا في مؤتمر «سيدر» (باريس 4) بتنفيذ «إصلاحات»، لن يكونوا قادرين على الإيفاء بأي من التزاماتهم، لا سيما لجهة إلزام لبنان بخفض العجز بمعدل 1% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً لفترة خمس سنوات. هذا الخفض يعني أنه يترتب على لبنان أن يخفض من إنفاقه ويزيد من إيراداته بمبلغ صافي مقدر بنحو 500 مليون دولار في 2018، وبنحو 530 مليون دولار في 2019... الواقع أن أرقام الخزينة بعيدة كل البعد عن هذا الأمر على رغم كل عمليات التجميل التي أجريت للموازنة وعلى رغم محاولات خفض الإنفاق على دعم الكهرباء. «المشكلة أن قوى السلطة نهبت المال العام والخاص. أحياناً قامت بهذا الأمر تحت مسميات هندسات مالية وأحياناً تحت تشريع التهرّب الضريبي وفي مرات عدة عبر تلزيمات وعقود مشكوك فيها أو مفصلة على قياس شركات تدفع خوّات لرجال السياسة لتأمين فوزها» وفق مصادر رسمية.
وبحسب أرقام وزارة المال، فإنه من بين بنود الإيرادات لم يسجّل ارتفاع إلا في بندين. ضريبة القيمة المضافة ازدادت بنسبة 9.7% لتبلغ 1872 مليار ليرة في نهاية حزيران 2018، وضريبة الأجور والرواتب ارتفعت بنسبة 17.9% لتبلغ 460 مليار ليرة. سبب هذا الارتفاع، أن ضريبة القيمة المضافة التي تعدّ سهلة التحصيل سواء عند المعابر الجمركية أو من المستهلك. أما ارتفاع حاصلات الضرائب على الأجور والرواتب فسببه الزيادة في كتلة الرواتب والأجور وملحقاتها لدى موظفي القطاع العام وبالتالي ارتفاع قيمة الاقتطاعات الضريبية منها.
في المقابل، تراجعت الحاصلات الجمركية بنسبة 3.9% لتبلغ 1000 مليار ليرة، وضريبة الدخل تراجعت بنسبة 10.1% لتبلغ 2768 مليار ليرة. كذلك تراجعت الرسوم العقارية المحصلة بنسبة 18.7% لتبلغ 362 مليار ليرة، وتراجعت ضريبة الأرباح بنسبة 38.5% لتبلغ 1222 مليار ليرة.
إذا صحّت بعض التقديرات الرسمية عن استمرار هذه الوتيرة من النفقات والإيرادات، فإنه في نهاية 2018 سيرتفع العجز إلى أكثر من 8000 مليار ليرة أي ما يزيد على 11% من الناتج المحلي الإجمالي. هذا الأمر سينعكس حاجات مالية إضافية، ما يعني المزيد من التورّم في الدين العام، والمزيد من الوهن الاقتصادي والنقدي.

الانحدار متواصل
إلى جانب التطوّر السلبي لعجز الموازنة، تراكمت مؤشرات نقدية ومالية «مخيفة». كل هذه المؤشرات تشي بأن النموذج الاقتصادي اللبناني ينحدر نحو الأسوأ، ويصعب التكهّن بمآلاته. أبرز المؤشرات السلبية تظهر من ميزان المدفوعات (الفارق بين حجم الأموال التي تخرج من لبنان وتلك التي تدخل إليه) الذي سجّل عجزاً في الأشهر التسعة الأولى من 2018 بقيمة 1.3 مليار دولار. العجز الفعلي في هذا الميزان هو أكبر بكثير، لأن مصرف لبنان أدخل، قبل بضعة أشهر، سندات يوروبوندز ضمن حساب هذا الميزان، أي إنه تلاعب فيه، ليحدّ من قيمة العجز الحقيقي. يقدّر العجز الفعلي بأضعاف العجز المعلن. لكن الأهم أيضاً أن عجز ميزان المدفوعات بدأ في عام 2011 واستمر حتى اليوم، باستثناء نتائج 2016 التي نفذ فيها مصرف لبنان هندسات مالية مع المصارف حققت لها أرباحاً بقيمة تفوق 5.5 مليارات دولار. تراكم العجز في ميزان المدفوعات هو مؤشر على ضعف قدرة مصرف لبنان على الاستمرار في تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار. بمعنى آخر، يعبّر ميزان المدفوعات عن صافي عمليات دخول الأموال من لبنان وخروجها. إذا سجّل الميزان فائضاً، فهذا يعني أن مصرف لبنان لديه ما يزيد من العملات الأجنبية لضخّها في السوق عند الحاجة، وإذا سجّل عجزاً فإن هذا يعني أن مصرف لبنان لديه عملات أجنبية أقل من حاجة السوق (تضاف إلى ما هو متراكم سابقاً). أما الحاجة إلى العملات الأجنبية فهي تنبع من عجز الميزان التجاري (الفارق بين قيمة التصدير والاستيراد). لبنان يستهلك السلع المستوردة، ويصدّر منها أيضاً. الفرق بين الاثنين يكون فائضاً أو عجزاً. العجز يعني أن لبنان يحتاج إلى المزيد من العملات الأجنبية ليدفع ثمن المستوردات، والفائض يعني أنه يحصل على العملات الأجنبية مقابل إنتاجه المحلّي، فلا يترتب عليه أعباء اجتذاب التدفقات.
تاريخياً، يعاني لبنان من عجز في ميزانه التجاري. وفي نهاية 2017 بلغ العجز في الميزان التجاري 16.7 مليار دولار (في 2017). وفي الأشهر الثمانية الأولى من عام 2018 بلغ 11.7 مليار دولار. وهذا العجز يغطّى من خلال تحويلات المغتربين، ومن خلال تدفقات رأس المال التي تأتي إلى لبنان على شكل ودائع، أو على شكل استثمارات أجنبية مباشرة. وبالتالي فإن استمرار عجز ميزان المدفوعات يعني أن هناك خللاً في حركة التدفقات على أنواعها. قد يعني ذلك خروج أموال من لبنان أكثر مما دخل إليه، وقد يعني تراجعاً في كمية التدفقات، لكن في المحصلة تصبح حاجة لبنان إلى مزيد من الدولارات أكبر مما كانت عليه في السنوات الماضية.

جنون الفوائد والتضخّم
ومن المؤشرات الأساسية التي تزيد الأوضاع الاقتصادية والمالية والنقدية سوءاً، أن أسعار الفوائد في لبنان بدأت ترتفع بشكل جنوني. الفائدة على الودائع بالليرة اللبنانية ارتفعت إلى أكثر من 18% وبلغت في بعض المرات 20%، والفائدة على الودائع بالدولار ارتفعت إلى 10%، والفائدة على التسليفات قفزت أكثر من خمس نقاط مئوية خلال سنتين، وسط تقلص في حجم محفظة التسليفات المصرفية، أي إن المصارف لم تعد تقوم بعملية التسليف لأن الزبائن أحجموا عنها بسبب الفوائد الكبيرة عليها. وهذا يعني إن الاقتصاد لن يتوسّع ولن تكون هناك فرص عمل... وهذا الأمر يفسّر جزئياً تراجع قيمة التحصيل الضريبي. ففي حالات الركود تتزايد حالات الإفلاس والإقفال والتخلّف عن السداد وترتفع قيمة الديون المشكوك في تحصيلها، وتكتظ السوق بالعاطلين من العمل... كل ذلك يحصل اليوم كنتيجة حتمية لهذا النموذج الذي يعطي الأولوية للسياسات النقدية لاستقطاب الدولارات من الخارج على السياسات الاقتصادية التي تعزّز الإنتاج المحلي والتصدير.


وعلى هامش ارتفاع أسعار الفوائد، بدأت تظهر كتلة إجراءات متكتمة من المصارف على تحريك الودائع. عبّر مودعون لـ«الأخبار» عن تعرّضهم لـ«ضغوطات كبيرة» من المصارف (وآخرون تحدّثوا عن إغراءات) من أجل ثنيهم عن تحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار، أو تشجعيهم على تحويلها من الدولار إلى الليرة. بعض المودعين أشاروا إلى أن المصارف رفضت تنفيذ عمليات تحويل العملة بحجّة أنها لا تملك الدولارات الكافية!
وكان تقرير صادر عن فرنسبنك، أشار إلى أنه «نظراً لتواصل العجز في المالية العامة للدولة، فقد حافظت المديونية العامة على اتجاهها التصاعدي، حيث ارتفع الدين العام الإجمالي بنسبة 5.2% من 79.6 مليار دولار في نهاية آب 2017 ليصل إلى نحو 83.7 مليار دولار في نهاية آب 2018، وبات يشكّل حالياً نحو 150% من الناتج المحلي الإجمالي. وقد ازداد الدين العام الصافي بنسبة مماثلة إلى 72.9 مليار دولار خلال الفترة ذاتها. وشكّل الدين الداخلي نحو 57.7%، فيما شكّل الدين الخارجي 42.3% من الدين العام الإجمالي».



طلب على الدولار يرفع فائدة «الانتربنك»
منذ مطلع الاسبوع الجاري، لوحظ ارتفاع الطلب على الدولار وارتفاع سعر فائدة «الانتربنك» من 5% إلى 10%. الطلب على الدولار برز يومي الاثنين والثلاثاء، أي في 5 و6 من الشهر الجاري. غالبية استحقاقات الودائع لدى المصارف مسجلة في 5 و15 و25 من كل شهر (بعض المصارف لديها تواريخ استحقاقات مختلفة). قبل يوم الاستحقاق وبعده بيوم تصبح الودائع بالليرة حرّة ويصبح بإمكان الزبائن تحويلها إلى الدولار. وجود طلب على الدولار في هذا الوقت بالتحديد يعني وجود قلق لدى بعض المودعين، سواء عن فهم أو عن جهل بما يحصل، لكنه قلق مرتبط بانعدام الثقة بالطبقة الحاكمة وبقدرتها على حفظ الاستقرار. المودعون يطلبون ودائعهم بالليرة، ما يحتم على المصارف أن تكون لديها الليرات الكافية لتشتري بها دولارات من مصرف لبنان. هذا النوع من الطلب كان موجوداً قبل نحو أسبوعين، لكنه تراجع في الاسبوع الماضي، ما دفع بسعر فائدة «الانتربنك» (فائدة التسليفات اليومية بين المصارف) إلى التراجع من 8 % إلى نحو 5% لتعود فترتفع إلى 10%.

المصدر: محمد وهبة - الاخبار