التحذير الذي وجّهه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله الى كيان العدو، يبدو موقفاً مدروساً بدقة في المضمون والتوقيت. ورسائلة باتت أكثر حضوراً لدى مؤسسة القرار السياسي والأمني في تل أبيب، وأيضاً لدى أصدقاء حزب الله وحلفائه وخصومه في الساحة اللبنانية.
في خطابه بمناسبة يوم الشهيد، أول من أمس، ربطَ تكرارَ التزامه بالرد الحتمي على أي اعتداء إسرائيلي ضد لبنان، بالضغوط الإسرائيلية والأميركية وبعض الأوروبية، التي تهدف الى تجريد المقاومة من أهم عنصر قوة، الصواريخ، في معادلة الردع التي تمنع العدو من استباحة لبنان. بالموازاة، يواصل العدو سياسة التهويل التي تهدف الى الإيحاء بأن لبنان أمام خيارين: إما التخلي عن هذه القدرات التي وفرت له مظلة حماية في أخطر مرحلة مصيرية مرت بها المنطقة، وهي ضمانة أمنه على مستوى المستقبل أيضاً؛ أو أن كيان العدو سينتقل الى مرحلة شن اعتداءات مدروسة وهادفة على الأراضي اللبنانية.
وتراهن تل أبيب، ومعها العديد من الأبواق الدولية والإقليمية والمحلية، على أن يساهم هذا التهويل بإعادة فرض القدرات الصاروخية ــــ التي حمت لبنان على مدى 12 عاماً ــــ على جدول الاشتباك الداخلي، على وقع «التهويل ومن خلال الضغوط الدبلوماسية ومن خلال استخدام الأميركيين وحتى بعض الدول الأوروبية ومن خلال إيجاد حالة من التخويف والتهديد بأنه إن لم تتم معالجة هذا الأمر فهو سيعالجه»، بحسب ما أوضح السيد نصر الله.
في المقابل، أتى موقف السيد نصر الله، على مستوى المضمون، لتأكيد قرار حزب الله: «لا أقول جديداً إذا قلت للإسرائيلي... أي اعتداء على لبنان، أي غارة جوية على لبنان، أي قصف على لبنان، سنرد عليه حتماً، حتماً، حتماً». وعلى مستوى التوقيت، أتى هذا الموقف في ذروة حاجة لبنان للتأكيد على تمسكه بقدرته، وقراره بالرد الحتمي، وهو ما يمثل عناصر القوة المضادة التي يستطيع المستوى الرسمي اللبناني الاستناد إليها لمواجهة الضغوط الإسرائيلية والأميركية والأوروبية.
وتنبع أهمية موقف السيد نصر الله، أيضاً، في المضمون والسياق والرسائل، من كونها تؤكد حقيقة أن خيارات لبنان ليست محصورة بين القبول بالإملاءات الخارجية التي تجرده من عناصر قوته، أو استباحة لبنان أمام الاعتداءات الإسرائيلية. بل إن تجريد لبنان من قدراته الصاروخية هو المقدمة المؤكدة التي تُمكِّن العدو من هذه الاستباحة التي ستؤسس لوطن يختلف جذرياً، في أمنه ومعادلاته وخياراته... عما نشهده الآن.
أن يأتي هذا الالتزام بالرد على لسان السيد نصر الله بنفسه، يعني الكثير لدى قادة العدو. وهو بالتأكيد سيلغي مجدداً من مروحة السيناريوات والخيارات التي قد تطرح على طاولة القرار السياسي الأمني في تل أبيب، إمكانية أن يتسلل أي وهم لدى قادة العدو حول رد حزب الله على أي خيار عدواني. وهنا ينبغي تأكيد حقيقة أخرى، وهي أن القضية لا تتعلق بنشوب حرب ــــ في المدى المنظور ــــ تتخوف إسرائيل من تداعياتها. ولكنها تسعى الى محاولة فرض معادلة تسمح لها بالعودة الى استباحة لبنان.
وهكذا تكون قيادة العدو قد وجدت نفسها مرة أخرى، بعد رسالة السيد نصر الله، أمام حقيقة ثابتة وهي أن أي تجاوز للخطوط التي رسمها حزب الله، يعني أنها ستتلقى ردوداً مؤلمة تستوجب منها، منذ الآن، دراسة خياراتها العملانية، في ضوء نتائجها وكلفتها وتداعياتها:
1 - الامتناع عن أصل الاعتداء الذي يستوجب الرد الذي التزم به حزب الله.
2 - المبادرة إلى الاعتداء وتلقي الرد الذي توعد به الحزب ثم الانكفاء.
3 - المبادرة إلى الاعتداء والرد على الرد.
في السيناريو الأول، يكون العدو قد امتنع عن أي مغامرة عسكرية، ويكون حزب الله قد حقق هدفه الردعي.
في السيناريو الثاني، يكون العدو قد ارتدع في نهاية المطاف، لكن بعد اختبار جدية حزب الله. ويكون الحزب قد حقق هدفه الردعي، وربما مع تضحيات ما وثمن مؤلم للعدو.
أما في السيناريو الثالث، وهو الآن بات أكثر استبعاداً، فيكون العدو أمام خيار التدحرج نحو مواجهة أوسع. لكنه أقدم على الاعتداء الابتدائي، مع علمه بأن ذلك سيؤدي إلى تلك المواجهة. وعلى ذلك، نكون أمام قرار استراتيجي اتخذه العدو بالعدوان، لكن مع إدراكه المسبق بأن النتيجة ستكون مؤلمة جداً، سوف يدفعه الى استبعاد هذا الخيار مجدداً. ومن الجدير ذكره، أنه حتى الذين يهوِّلون في إسرائيل لا يتحدثون عن حرب على لبنان.
وفي كل الأحوال، يكون حزب الله قد استطاع مجدداً أن يبدد الرهانات الإسرائيلية، وأعاد خلط الأوراق على طاولة صانع القرار في تل أبيب، وأربك حسابات الكلفة والجدوى لديه. ومع أن السيد نصر الله لم يحدد طبيعة هذا الرد وحجمه، إلا أنه أوضح ضابطة أساسية يمكن من خلالها استخراج معالمه، عندما تحدث عن أنه «لن يكون مقبولاً أن يعود العدو ليستبيح لبنان كما كان يفعل في العقود الماضية». وهو ما يعني بالضرورة أن هدف الرد سيكون منع إعادة استباحة لبنان، وكي يكون كذلك، سيكون بالضرورة رداً رادعاً. والأهم من كل ذلك، أن حزب الله بادر الى رسالة استباقية، أوضح فيها للعدو هذا السيناريو الذي سيلقي بثقله على مؤسسة القرار، ويربك حساباتها، ويقيد خياراتها.