لا شيء تغيّر عند سليمان فرنجية. قبل المصالحة مع سمير جعجع وبعدها، يبدو رئيس تيار المردة هو هو، في الشكل والمضمون، في الموقف واللغة، ثابت في تحالفاته السياسية وفي مواقفه من سوريا والمقاومة، وفي رؤيته لدور المسيحيين في لبنان والشرق.
أسئلة كثيرة ارتسمت بعد مصالحة بكركي الأخيرة، عند جمهور حلفاء فرنجية وأخصامه. هل كانت المصالحة مع رئيس حزب القوات سمير جعجع لزوم ما لا يلزم؟ هل تحالف مع القوات؟ هل منح صكّ براءة لسمير جعجع من دم عائلته؟ أم أن سلوك التيار الوطني الحر، وتحديداً وزير الخارجية جبران باسيل، دفع فرنجية إلى «أبغض الحلال»، بمصافحة جعجع وإعلان «المسامحة» بعد أربعين عاماً على جريمة إهدن؟
أوراق الخريف، تملأ ضفاف الطريق إلى البيت الخشبي المعتّق في بنشعي. إجراءات أمنية معتادة بين المدخل الرئيسي والبيت. فرنجية في الباحة الفسيحة ينتظر ضيوفه لاستقبالهم، والغيم الرمادي في السماء القريبة يهمّ بالهرب من المطر ويرحل صعوداً نحو الجبال العالية، مع الريح الغربية.
هنا في البيت متعة لامتناهية لهواة الصيد البري، ورئيس المردة حائرٌ يبحث عن مكانٍ ليعلّق فيه كبش معزاة جبلية جديدة محنّطة ودبّ كندي عجوز ضخم، إلى جانب طرائده الأخرى المعلّقة على كل جدار.
قبل حديث السياسة، يبدو فرنجية «متشائلاً» حيال المستقبل. يقتنع بأن «لبنان لديه فرصة تاريخية في المرحلة المقبلة مع التحولات الاقتصادية من استخراج النفط والغاز إلى إعادة إعمار سوريا والعراق وشبكات المواصلات الحديثة، ليلعب دوراً متقدماً في محيطه». لكنّه في المقابل، يرى أن «قدرة لبنان الحالية وظروفه السياسية وعدم وجود رؤية في البلاد، قد يغرقنا في الديون والأزمات الاقتصادية والبطالة أكثر مّما نحن فيه».
يعطي فرنجية مثالاً على ذلك أزمة الكهرباء، وكيف أن بلداً مثل لبنان بهذا العدد من السكان، لم ينجح حتى الآن في حل أزمة عميقة من هذا النوع. وهو على عكس المتوقّع، لا يحمّل طرفاً مسؤولية هذه الأزمة، حتى ولو كان خصماً مستجداً كالتيار الوطني الحر. إنّما يرى أن «أزمة الكهرباء هي نتاج مسار طويل من الجهل واللامعرفة»، ويقترح أن «تضع الدولة خطة اكتفاء ذاتي، ثم تضع تصوّراً للحل عبر دمج مصادر الطاقة من معامل الإنتاج والغاز إلى محطات الطاقة المتجددة، ثم نذهب ونبحث لها عن تمويل كامل، ولو أخذت وقتاً أطول لكن نصل إلى حل جذري ونصارح اللبنانيين ونضعهم في صورة الخطة ونهيئ الأرضية للصبر. صبرنا كل هذه السنين، فلنصبر لننجز حلاً متكاملاً نهائياً».
نعود إلى المصالحة. يبتسم فرنجية، «شو بها المصالحة؟ اسمها يكفي لشرحها». يبدأ رئيس المردة بوضع إطار لما جرى الأسبوع الماضي في بكركي: «هي مصالحة من دون أي اتفاق سياسي أو التزام أو تفاهم مستقبلي. طبعاً هناك تهدئة بين الحزبين والجمهور من نتائج المصالحة، وأصلاً كان هناك قناة اتصال لتخفيف التوتر والاحتقان الذي كان يحصل في السنوات الماضية».
لكن لماذا الآن، ألم تحصل مصالحة في لقاء الزعماء المسيحيين الأربعة في بكركي قبل سنوات؟ يردّ فرنجية: «لم تكن مصالحة وقتها، كان لقاء عابراً جرى برعاية بكركي لمصلحة المسيحيين ولبنان، وما حصل الأسبوع الماضي هو أيضاً برعاية بكركي، ولمصلحة لبنان والمسيحيين». يتابع: «أما لماذا الآن، فلنسأل عكسياً، متى هو الوقت المناسب؟ ليس هناك من توقيت محدّد، لكن الظروف نضجت، ولا فائدة من التمسّك بالأحقاد. وأكرر هي مسامحة ومصالحة وليست تحالفاً سياسياً».
لكن البعض يقول إنك تنازلت عن دم عائلتك، ما ردّك على هذا المنطق؟ يجيب فرنجية: «أوّلاً هذا ليس تنازلا عن دم عائلتي، هذه مصالحة ومسامحة عن شيء لي الحق فيه أنا وأهالي الشهداء الذين جلست وإياهم قبل القيام بأي تحرك. لا أريد الخوض في التفاصيل، لكنّي على الأقل تنازلت من دون مقابل عن حقّي، فيما تنازل آخرون عن دم غيرهم لأجل الرئاسة».
بيتكم وأنت وحكاية مجزرة إهدن، تمثّلون حالة وجدانية معيّنة لدى شريحة واسعة من اللبنانيين، فهل منحت مصالحتك لجعجع صك براءة له؟ يردّ فرنجية: «جعجع خرج من السجن بتوافق سياسي، وهو موجود في الحياة السياسية، والحلفاء والخصوم يتعاملون معه بهذه المعطيات، ثمّ إن منطق «صك البراءة» منحه التيار الوطني الحر والرئيس ميشال عون لرئيس القوات في معراب، وأوقفوا الحملات الإعلامية ضد القوات ووقّعوا وثيقة وعملوا تفاهم سياسي طويل عريض، كلّه لأجل الرئاسة، وعندما وصلوا إلى الرئاسة انقلبوا على الاتفاق على مراحل. أنا على الأقل لم أتعهد له بأي شيء وهو كذلك».
كم تقوّم الفائدة بالنسبة إليك وبالنسبة إلى جعجع؟
«ممم»، يفكر فرنجية قبل أن يجيب، ثمّ يرد: «لا أرى أن المسألة ربح وخسارة، لكن أعتقد أن المصالحة المجرّدة هي ربح 50 للمردة و50 للقوات. ربّما تتحوّل هذه الفائدة، بحسب الظروف لمصلحة لأحد الفريقين، لأن الظروف المحلية والإقليمية متغيرة».
هل يمكنك أن تعطي مثالاً؟
يرد رئيس المردة، «نعم، فلنأخذ مثالاً، مع أن الانتخابات الرئاسية المقبلة بعيدة المدى، لكن إذا بقيت الظروف الحالية وتقدّم سوريا ومحور المقاومة في الإقليم، وهذا المرجّح لسنوات مقبلة، فإن حظوظي مرتفعة لأكون الرئيس المقبل. في المرة الماضية، كان محسوماً أن الرئيس من قوى 8 آذار ورئيس الحكومة من فريق 14 آذار، أرجّح أن تكون الرئاسة المقبلة على هذا الأساس مع أنها بعيدة وليس وقتها للنقاش، لكن ستكون موازين القوى نفسها. لذلك سيكون الاستحقاق محصوراً بيني وبين جبران باسيل. جعجع جرّب سابقاً خيار عون، وكانت النتيجة الانقلاب على التفاهم. أعتقد أنه بيني وبين باسيل يختارني، فأنا وباسيل من ذات الخيار السياسي، لكن الفرق أنني أخاصم بشرف وأعطي كل ذي حق حقّه ولا أنقلب على اتفاقات».
هل يعني هذا الكلام أن هناك اتفاقاً على هذا الأمر؟
يرد فرنجية سريعاً: «طبعاً لا. قد تقف القوات إلى جانب هذا الخيار أو لا تقف، لم نناقش الأمر ولم نقترب منه أصلاً. لكن أعطي مثلاً، لأن هناك من يحضّر لانتخابات الرئاسة منذ الآن بأي ثمن وبكل الوسائل، ومنها محاولة القول باحتكار النواب والأصوات المسيحية وهذا غير صحيح طبعاً، أو القول إن المردة خارج جبل لبنان وهذا تفكير متخلّف، التمييز بين مسيحي من جبل لبنان ومسيحي من الأطراف».
هل تأخذ القوات من جمهور المردة مستقبلاً؟
يرد فرنجية: «مستحيل، نحن جمهوران وعنوانان منفصلان في السياسة. المردة لا يتحولون إلى قوات والعكس صحيح. لكن كلنا نتنافس على الكتلة الرمادية. للأسف، التيار الوطني الحرّ يوتّر الشارع ويحرّك العصبية، وعندها يمكن للقوات أن تستقطب من هذه الشريحة».
هل لا يزال جعجع مخيفاً بأدواره على الساحة اللبنانية، في الأمن مثلاً؟
يرد فرنجية: «الجميع مخيف بالأمن بحسب الظروف. في الظروف الحالية لا أعتقد. فليكن السؤال الأخير عن المصالحة، لا أريد تخريبها، لقد مضى ما مضى».
متى تتألف الحكومة؟
فرنجية: «أعتقد أن الأمور معقّدة. من الواضح أن همّ باسيل الوحيد هو الحصول على 11 وزيراً، للتأكد من قدرته على إمساك الحكومة في حال حصول أي تطوّر، طالما أن هناك اعتقاداً بأن هذه الحكومة ستبقى مدة طويلة. إذا كان باسيل يثق بحلفائه، فلماذا يصرّ على الثلث المعطّل؟ هذا يعني أنه يفتعل أزمة ثقة، تضاف إلى سلوك عام أخيراً. هل تستأهل معركة الرئاسة توتير البلد منذ الآن؟ هذا سؤال يجب أن يطرح عليه. هناك عقل إلغائي ضد الجميع».
سؤال أخير، تحدثنا في البداية عن التطبيع مع العدو الإسرائيلي في العالم العربي ولبنان، ما هو موقفك من هذا الأمر؟
فرنجية: موقفي مثل موقفي من المقاومة والقضية الفلسطينية. هناك محاولات في لبنان لفرض التطبيع علينا، بكل أشكاله، علينا مواجهته بكل الوسائل أيضاً. هناك حالات محدّدة، القانون لا يلحظها، لذا علينا تعديل القانون حتى يلحظ كل الحالات والاستثناءات وليس اتخاذ قرارات فردية. لا أقول أن ننعزل عن العالم، ولكن ما يحصل خطير ويصبّ في سياق تصفية القصية الفلسطينية وإنهاء الصراع مع العدو الإسرائيلي».