ما إن انتشر في مكاتب وزارة الصحة حديث عن برنامج عمل حزب الله هناك وعلى رأسه خفض أسعار الدواء حتى هرع وزير الصحة غسان حاصباني ليلملم «فضيحة» قريبة. سريعاً أسقط كل حججه عن تفاوت سعر الدواء بين لبنان والدول المجاورة، ليعلن اليوم عن قرار خفض الأسعار. أمر كان يفترض بأي وزير حريص على مصلحة المواطن لا المستورد أن يبدأ به عهده، وإذ به يتخذه قبل نهاية عهده... «خوفاً من حزب الله»

 

منذ نحو شهرين، تحوّلت أزمة غلاء سعر الدواء في لبنان، أكان مستورداً أو مصنعاً محلياً، إلى قضية رأي عام. وبات المواطنون يلجأون إلى تركيا لشراء الأدوية التي يحتاجونها، لكن بسعر أقل من مثيله في لبنان (يصل السعر في تركيا إلى 15 في المئة من السعر في لبنان). يومها، بدأ وزير الصحة غسان حاصباني التنقل بين شاشات التلفزة، ليبرر التفاوت في سعر الدواء بين لبنان وتركيا، معللاً بأن «الصناعة في تركيا مدعومة بكلفتها، وكذلك الدواء وكهرباء المصنع وليس كما يحصل في لبنان حيث يدفع المصنع فاتورتي كهرباء أكبر بكثير من فاتورة كهرباء المصنع في تركيا». كذلك «حجم سكان تركيا يوازي 17 ضعف حجم سكان لبنان». أما في لبنان، فـ«يحدد سعر أي دواء بناء على مقارنة بين أسعاره في 14 دولة، إضافة إلى الدولة المصنعة، ويعتمد الأدنى سعراً». يصعب تأويل كلام حاصباني فهو واضح في ما يعنيه أنه لا يمكن للوزارة خفض الأسعار في غياب دعم الدولة وغلاء الكهرباء وارتفاع أسعار السلع في شكل عام. ولكن فجأة، يصبح كل ذلك متاحاً ليعقد حاصباني مؤتمراً اليوم يعلن فيه خفض أسعار الدواء في شكل كبير. والسبب؟ «الخوف من حزب الله». ما إن شاع في أوساط الوزارة برنامج الحزب الذي سيعتمده وزيره فور استلامه ويقضي بخفض سعر الدواء على المواطن، حتى هرع حاصباني يلمّ «الفضيحة» المفترضة والتي ستكشف تواطؤه مع مستوردي الأدوية، على ما يقول أحد نواب لجنة الصحة العامة والعمل والشؤون الاجتماعية في مجلس النواب. فاللجنة نفسها كانت قد دعت إلى اجتماع طارئ في أيلول المنصرم حضره كل المعنيين بملف الدواء من وزير الصحة ونقيب مستوردي الأدوية إلى نقيب مصنعي الأدوية وغيرهم، وذلك على خلفية «البلبلة التركية الحاصلة في البلد». يومها قال رئيس اللجنة النائب عاصم عراجي إثر الاجتماع إن اللجنة سألت عن فارق سعر الدواء بين لبنان وتركيا والذي بلغ 85%. و«الحجة التي أخذناها من وزير الصحة وشركات الدواء أن هناك تسهيلات في تركيا أعطيت لشركات الأدوية كالأراضي ودعم الدواء (...) وقلنا لهم إن هناك العديد من الناس يذهبون إلى تركيا للاستجمام ويأتون بالأدوية، وهذا الأمر إذا ازداد فإنه سيؤثر في سوق الدواء في لبنان». على هذا الأساس أخذنا وعداً بخفض أسعار الدواء».

«الأخبار» اتصلت برئيس اللجنة النائب عاصم عراجي لاستيضاح الأمر، فقال إنه «حصل نقاش قوي داخل الجلسة لأننا أبلغنا المعنيين أنه لا يمكن لأسعار الدواء أن تستمر على هذا النحو، لا سيما أن لبنان يخسر الكثير مع سفر اللبنانيين إلى تركيا لشراء الدواء الأرخص بسبعة أضعاف من السعر اللبناني. ولا يمكن هنا التحجج بتسهيلات الدولة التركية، فالفرق كبير جداً ويصعب تبريره». الأمثلة هنا كثيرة: دواء لخفض نسبة الدهون في الدم يباع في لبنان بنحو 80 ألف ليرة، فيما سعره في تركيا لا يتعدى 8 آلاف ليرة لبنانية. وأحد الأدوية التي يتناولها مرضى القلب بصورة دائمة كان سعره 100 دولار قبل أن يخفض إلى 50 لكنه لا يزال أضعاف السعر الذي يباع فيه في تركيا وهو يعادل 10 آلاف ليرة لبنانية. والحل؟ «منذ سنوات نطالب بمختبر مركزي لتشجيع الصناعة المحلية على أن تكون أسعارها مشابهة لأسعار تركيا. ويفترض أيضاً تشكيل الهيئة الدوائية بأسرع وقت لأن كلفة الفاتورة الدوائية باتت غير مقبولة نهائياً». فوفقاً لعراجي «لا يعقل أن يبقى سوق الدواء فالتاً. الفاتورة الدوائية هي نحو مليار ونصف مليون دولار، وهذه نسبة عالية جداً إذا أردنا أن نحسبها بالنسبة إلى الفرد في لبنان».

إذاً، من يعتزم إصلاح السياسة الدوائية والوضع الصحي وتخفيف الأعباء عن كاهل المواطن، كان سيعمد منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى الوزارة إلى الضغط باتجاه إعادة المختبر المركزي إلى الحياة، ومراجعة أسعار الدواء باستمرار لا كل 3 سنوات بحيث ينخفض أحياناً السعر في دول المنشأ ويبقى الجينيريك في لبنان أغلى سعراً من الدواء الأصلي حيث صُنِع. وكان يفترض بالوزير الحريص على المواطن لا مستوردي الأدوية، أن يلزم هؤلاء التقيد بالقانون الذي يحتم عليهم التسعير بحسب سعر الدواء في دولة المنشأ. لكن ما يحصل هو بمثابة «تزوير» يقوم به المستوردون. ويشرح رئيس الهيئة الوطنية الصحية النائب السابق إسماعيل سكرية أن «تاجر الأدوية يتواطأ مع المصنع الذي يستورد منه إلى لبنان، فيأخذ عبره شهادة سعر، لا عبر الدولة رسمياً، ما يسمح له بالتلاعب بالسعر وإضافته كما يحلو له ثم إضافة الرسوم العادية فوق السعر المتلاعب به أي نسبة ربح المستورد والصيدلي وأعباء الشحن». لذلك «يزيد سعر الدواء حين يصل إلى لبنان نحو سبعة أضعاف عن سعره في الدول المجاورة، من دون أي حسيب أو رقيب». وحاصباني، وفقاً لسكرية، «اعتمد نفس السياسة المعتمدة من غالبية أسلافه؛ دافع عن غلاء الأسعار مراراً وتكراراً، وركب قطار المستوردين، وسمح أن يصبح الجينيريك أغلى من الدواء الأصيل». فيما كان عليه فقط «تطبيق القانون ليربح الجميع». ولكن الوزارة صرفت النظر «عن تواطؤ شركات الدواء ولجنة تسعير الأدوية عبر استيراد أدوية فلت وإعادة تغليفها وتعبئتها محلياً من خلال شركات وطنية بشكل يصبح لبنان بلد المنشأ فتتحرر من مقارنة الأسعار، لتلجأ إلى تسعيرتها الخاصة. ما أبقى مئات الأدوية الباهظة الثمن والأكثر تداولاً، كأدوية القلب والشرايين والأعصاب والضغط بأسعار مرتفعة، وصولاً إلى بيع بعض أدوية المناعة التي يبلغ سعرها 500 دولار أميركي بـ3 مليون و500 ألف ليرة في لبنان». والإصلاح هنا يبدأ من «محاسبة لجنة التسعير على نهب المليارات من أموال اللبنانيين ورفع الفاتورة الدوائية إلى حدود خيالية».


لكن يبدو أن «خوف» حاصباني مما يعتزم وزير حزب الله القيام به في وزارة الصحة، دفعه اليوم إلى التحرر من المصالح والسبب الرئيسي الذي يحول دون خفض سعر الدواء. فجأة لم يعد تقرير جمعية حماية المستهلك - عن غلاء سعر الدواء بنسبة 700% مقارنة بأوروبا (راجع «الأخبار» يوم 8 حزيران 2018) - الذي شكك به حاصباني حين صدوره، لم يعد «غير معبّر عن الواقع». بات يمكن حاصباني نقض كل تصريحاته السابقة المدافعة عن سعر الدواء في لبنان مقارنة بمصر وتركيا وأوروبا، ليلملم ما تبقى من صيت «نظافة الكف» الذي أوهمت القوات اللبنانية الرأي العام به. إذ كان الأجدى بحاصباني بدء عهده بهذه الخطوة لا القيام بها في فترة تصريف الأعمال. في مقابلة أجراها موقع «ليبانون 24» مع وزير الصحة الشهر الماضي، سئل حاصباني عن تفاوت سعر الدواء ما بين لبنان وتركيا ومصر. فأجاب: «هل نسأل مثلاً لماذا الطعام في الهند أرخص ولماذا الملابس في تركيا أقلّ سعراً؟! هذه هي المعادلة». هذا هو موقف الوزير قبل أن لفت الحاكم الحقيقي للوزارة نظره إلى ضرورة تسجيل إنجاز، ولو يتيم، قبل أن تؤول «الصحة» إلى حزب الله.

المصدر: رلى إبراهيم - الاخبار