مهما كانت نتائج أحداث الأيام الأخيرة، إلا أن ما نتج منها يؤشر إلى غياب دور متقدم لرئيس الجمهورية في المبادرة الفورية لوقف الاندفاعة الأمنية، إضافة إلى عودة الأجهزة إلى مرجعياتها السياسية
حدد حزب الله في تعامله مع أحداث الأيام الأخيرة موقفه بأنه أنقذ البلد من حرب أهلية. وواضح من تطور هذه الأحداث ومسارها أن الحزب كان وحده محور الحركة السياسية في كل الاتصالات واللقاءات التي أجريت لتطويق ذيول حادثة الجاهلية.
وإذا كان تفرد حزب الله بدور بارز له، ليس حدثاً طارئاً حين يتعلق الأمر بمسألة تخص حليفاً له ولسوريا، كما يحصل في ملف توزير سنّة 8 آذار، وبصرف النظر عن مستقبل هذه الحادثة، إلا أن البارز في ما جرى، هو غياب دور رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في اليومين الأولين للحدث، قبل أن يبادر أمس إلى إطلاق أول موقف علني مما جرى، إضافة إلى افتقاد الأجهزة الأمنية الحد الأدنى من التنسيق في ما بينها.
لا يشكك سياسيون في ألا يكون عون تابع مجريات الأحداث الأخيرة، منذ لحظاتها الأولى. المشكلة تأتي من مكان آخر، لأن حادثة خطرة كالتي وقعت، كانت تستدعي المبادرة منذ الساعات الأولى إلى إطار سياسي وأمني أكبر، وليس الانتظار إلى افتتاح المكتبة الوطنية، لأن تداعياتها كما دلت عليها نتائجها، كبيرة بالمعنى السياسي والأمني على السواء. وليس المقصود أن يتدخل رئيس الجمهورية بأي حدث أمني فردي، بل أن عملية حملت كل عناصر التوتر، وتقاطع فيها عمل المؤسسات الأمنية مع التشرذم السياسي، كان يفترض أن تعالج من أعلى مرتبة سياسية. ورئيس الجمهورية يعرف تماماً الانعكاسات السيئة لهذا التطور وخطورته، لا سيما أنه مس بحلقة - مهما كبر أو صغر حجمها - حليفة لحزب الله، فيما الطرف الآخر هو رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، وأن أي غلطة أمنية كان يمكن أن تشعل الوضع الداخلي الذي يحرص عون على استقراره.
الأكيد أن أي متابعة لأي حدث أمني تعود إلى وزيري الداخلية ووزير الدفاع، لكن أبعاد ما جرى في الاتجاهين، لا علاقة لها بانتظام عمل المؤسسات وتحديد المرجعية الصالحة لإدارة الأزمة، كما تنص عليه القوانين المرعية الإجراء. إلا أن الصمت السياسي وانكفاء العهد لساعات طويلة، عن استيعاب الحدث، ولو علانية، ليس أمراً صائباً يصب في مصلحته، ولا يكرس دور رئيس الجمهورية في تفادي أي مشكلة خطرة على هذا المستوى، لأنه يفترض أن يكون المرجعية الأعلى في مواجهة أحداث كهذه، تمتزج فيها العناصر المذهبية والسياسية والأمنية. والمشكلة أن حملة التجييش المتبادلة، بين طرفي الحادثة، والاستغلال التلفزيوني للحدث الأمني، كان يمكن أن ينعكس على الأرض، بأحداث أو أخطاء ليست في الحسبان، ما من شأنه أن يهز الاستقرار الذي يحرص عليه رئيس الجمهورية.
فعون كان يشدد دوماً على عمل المؤسسات الأمنية والتنسيق بينها حفاظاً على الاستقرار وتأمين مستلزمات التهدئة الداخلية. في الحادثة الأخيرة، وبصرف النظر عن أسبابها الحقيقية وأخطائها من الجانبين، لم يظهر أي تنسيق أمني، ليس من باب استدعاء قوى الأمن للجيش بهدف المساندة في عمل كهذا، بل من زاوية الإحاطة الأمنية الشاملة، وخصوصاً للجيش، بالوضع لسحب عناصر التفجير، هو أمر ينعكس مباشرة على أداء المؤسسات الأمنية. فالجيش لا يمكن أن يتذرع بأن قوى الأمن هي صاحبة الصلاحية في ما جرى، ولا يمكن أيضاً أن يقول أن لا شأن له في ما حدث، وأن صمته أمر بديهي. لأن أي خضة أمنية كان يمكن أن تقع، هي من مسؤوليته، إلا إذا كان هناك قرار بعدم تدخله والبقاء على الحياد. وغياب التنسيق الأمني بين كافة المؤسسات، ساهم في عدم تطويق ذيول حدث خطير بانعكاساته. إذ لا يستطيع أي جهاز أمني أن يتفرد بأي عمل أمني مهما كانت درجة خطورته، من دون إحاطة القوى المعنية أيضاً بما يحصل، كي يكون قادة الأجهزة المختصة على بينة مسبقة لاستحضار كل ما يلزم لتفادي وقوع اندفاعات أمنية غير محسوبة. علماً أنه لم تكن مضت أيام قليلة على اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، الذي طلب فيه رئيس الجمهورية من هذه الأجهزة التنسيق في ما بينها «للحد من الأحداث الأمنية».
ولعل أخطر ما حصل في ترك الأوضاع تتفاقم إلى هذا الحد، هو أن ما جرى أعاد إلى الواجهة مشكلة تقسيم الأجهزة الأمنية بين المرجعيات السياسية، بعد مرحلة تموضع المؤسسات مجدداً تحت كنف مرجعية أشمل وأوسع من المرجعيات السياسية. فلا الجيش ولا قوى الأمن ولا الأمن العام بطبيعة الحال، بفعل دور مديره العام اللواء عباس إبراهيم إلى جانب رئيس الجمهورية، خرجوا من عباءة الحكم ككل. حدث الجاهلية أحيا «انتماءات» المؤسسات الأمنية، فعاد كل جهاز إلى مرجعيته السياسية والطائفية. وإصلاح ما خلفه حدث الجاهلية قد يستغرق وقتاً طويلاً، لأنه يعيد إلى الأذهان صوراً عن الانقسامات التي طبعت عمل الأجهزة الأمنية والقضائية، في السنوات الفائتة، وهذا لا يمكن أن يمر مروراً عابراً في عهد يريد إعادة الاعتبار إلى دور المؤسسات وانتظام عملها.