مما لا شك فيه أن "الفساد" في الكيان اللبناني بلغ ذروته على مختلف الصعد. الا أن كل مقاربة لموضوع "الفساد" باعتباره مخالفة "للقوانين والتشريعات" هي خروج عن السياق الطبيعي والحتمي للكيان اللبناني، ولن تؤدي في أحسن الأحوال الا الى التشهير بموظف او متعهد او حتى وزير من هذا الطرف او ذاك، وفي الغالب دون محاسبة ليأتي سواه يتابع من حيث ما انتهى سلفه.
"الفساد" في الكيان اللبناني هو منظومة تشكل قاعدة في الكيان، حيث إن كل جماعة فيه لها روابطها خارجه تحتفظ بحق التوظيف للموارد التي تمنح لها من مرجعيتها بما يخدم قاعدتها الاجتماعية اولا. والكباش مع الجماعة الأخرى على ما يمكن تسميته " الأقسام المشتركة"، وكل ذلك تحت سقف المنظومة الأكبر اقليميا ودوليا، بمعزل عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي سادت منذ العام 1992 والتي افرغت الكيان اللبناني من اوليات ما يمكن تسميته "اقتصاد وطني" (صناعة وزراعة) بجانب عناصر اخرى.
ان الأساس في قيام هذا الكيان هو الريع الذي يغذي بقاءه مشروطا بخيارات اقتصادية ومالية وسياسية حاكمة فيه. وبالقدر الذي تنعكس فيه هذه الخيارات في خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية للمهيمن الدولي. من هنا كل حركة مواجهة مع "الفساد" تصطدم بجدار تعجز عن اختراقه واذا ما بغت حد تهديد المنظومة ترتد الى "حرب اهليه" بسبب ان الجماعات الأكثر تماهيا مع المهيمن تندفع الى استخدام القوة والعنف (تحت اي شعار او حجة) بما تملك من أدوات بدءا من المؤسسات العسكرية والأمنية التي تحت سلطتها وانتهاء بقواعدها المباشرة في جماعتها. وهذا درس تكرر في عام 1958 وعام 1975.
نحن الآن في مرحلة تاريخية مختلفة بحيث لم يعد لدى المهيمن العالمي اي مصلحة في تعويم هذا الكيان وحل مشكلاته بسبب الأعباء الاقتصادية التي يعاني منها المهيمن العالمي نفسه وكذلك ادواته الدولية والإقليمية. فضلا عن ان متطلبات هذا المهيمن لا تكفيها المواقف المجردة التي تتماهى معه بل هو يحتاج الى مواقف وفعاليات ملموسة تحدث تغييرا في الأحداث وتلبي احتياجات سياساته في المنطقة. واقلها في الكيان اللبناني، عزل وتقويض التهديد الذي يشكله "حزب الله" لمصالح المهيمن وادواته في المنطقة وخصوصا الكيان الصهيوني.
ان الادعاء الكاذب بحياد لبنان عن المحاور الإقليمية والدولية، يفتقر الى اقل دليل او حتى قرينة تضعه في منأى عن التبعية المطلقة والخضوع الكامل لإملاءات المهيمن الدولي ماليا واقتصاديا وسياسيا، وتجعله مكبلا وعاجزا عن أي درجة من الاستقلال.
في خياراته، سواء كبرت او صغرت، هو تابع منذ تأسيسه للغرب الاستعماري الذي اسسه وسيطر عليه في كل تفاصيله المالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية – الأمنية والثقافية وترجم السياسات التي تملى عليه في قوانينه وتشريعاته. مرة باسم مصلحة لبنان العليا ومرات باسم الالتزام بـ "الشرعية الدولية" وقرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة. حتى ولو كانت - وهي كذالك- ليست في مصلحة لبنان. وما حصل مؤخرا من رفض الهبة الروسية للجيش اللبناني فضلاً عن عدم قبول هبة سابقة (طائرات الميغ) ورفض العروض الايرانية بالمساعدة العسكرية والتنموية التزاما بالإملاءات الأميريكية والغربية شاهدة على ذلك.
ان آخر حقن التخدير التي تمنح للكيان اللبناني هي "مؤتمر سيدر" وما رصد فيه من الاحد عشر مليار والمشروطة في مشاريع محددة وتضاف الى مجموع الدين العام، لن تلبي ابسط احتياجات لبنان لتجاوز ازماته او الحد من تفاقمها في كل الميادين.
السبيل الوحيد لوضع لبنان على طريق الانقاذ والنهوض في اوضاعه على مختلف الصعد وتأمين السلم الاجتماعي هو في اعادة تموضعه اقتصاديا وسياسيا وعلى المستوى الرسمي، من خلال التماهي مع المصالح الحقيقية لنسيجه الاجتماعي وذلك عبر احياء "اتفاقية التعاون والتنسيق بين سوريا ولبنان" وكل ما يندرج تحتها من اتفاقات اقتصادية وعسكرية وامنية، في اطار العلاقات المميزة والتي نص عليها "اتفاق الطائف"، وتعزيز قوة الجيش اللبناني عبر تسليحه وتقويته لأنه الضمانة المطمئنة لكل البنى الاجتماعية اللبنانية بمعزل عن القوى السياسية المرتهنة للغرب وعلى رأسه أميريكا وأدواتها في المنطقة وقبول كل دعم غير مشروط للجيش من اي دولة صديقة، ووضع خطة اقتصادية انمائية ترتكز على تعزيز وتطوير الاقتصاد الوطني واستثمار مواردنا الطبيعية دون الخضوع للتهويل الصهيوني من جهة والاملاءات الغربية والرجعية العربية من جهة أخرى، او الوقوف عند ارادة وامزجة المرتبطين بهم من قوى التبعية التاريخية ممثلة بابرز نماذجها "القوات اللبنانية" او "الحريرية السياسية " التي اغرقت لبنان وتمعن في اغراقه اكثر وانكشافه امنيا بما يهدد السلم الأهلي خضوعا لأولياء نعمتها آل سعود.
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع