مجدداً، تقف الدولة اللبنانية أمام امتحان صعب في منطقة البقاع الشمالي بين تحدّي القضاء على ظاهرة الجريمة المنظمة واحتواء بيئة العشائر في كنف الدولة، فيما يدفع الجيش دماءً لتنفيذ الخطط الأمنية وتكلفة غياب الخطط الوطنية لمعالجة أزمات تاريخية متراكمة
طغت أحداث البقاع أول من أمس بعد استشهاد الجندي رؤوف يزبك، على تطوّرات المشهد الأمني والسياسي في البلاد، لا سيّما في ظلّ غياب أي تقدّم في ملّف تشكيل الحكومة.
وأعاد اعتداء المسلّحين من بعض أبناء العشائر في البقاع الشمالي على نقاط الجيش ودوريّاته مساء الأربعاء، تسليط الضوء على حالة التفلّت الأمني التي تعانيها المنطقة، ومحاولات الأجهزة الأمنية والعسكرية تطبيق الخطة الأمنية، بعد أن وصلت اعتداءات المطلوبين إلى حدّ تهديد السلم الأهلي في البقاع وتثبيت الجريمة المنظمة والتأسيس لعمليات الثأر والثأر المضاد بين العائلات والعشائر والدولة.
وبلا شكّ، فإن المهمة أمام القوى الأمنية وتحديداً الجيش، صعبة للغاية، بين فرض هيبة الدولة وضرب المخلّين بالأمن وبين محاولات احتواء البيئة العشائرية الحاضنة للخارجين عن القانون، التي تحكمها تراكمات تاريخية من الإهمال والفقر والبطالة وترسّخ العقلية القبلية.
غير أن التطوّر الخطير، أوّل من أمس، هو تعمّد مجموعة مسلّحة الاعتداء بالقذائف الصاروخية والرشاشة على دورية للجيش من اللواء السادس، في محيط حي الشراونة في مدينة بعلبك وإطلاق النيران على أحد مواقع الجيش قرب مفرق بلدة إيعات، بالتزامن مع اعتداء على موقع آخر للجيش قرب معبر مطربا في بلدة القصر على الحدود اللبنانية ــ السورية. وفيما لم تسجّل إصابات في صفوف الجيش في مطربا، إلّا أن الاعتداء على الدورية أدّى إلى استشهاد الجندي يزبك بعد ساعات على إصابته ونقله إلى مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك، وأدى الاعتداء قرب إيعات إلى إصابة ثلاثة عسكريين بجروح طفيفة.
وبحسب مصادر أمنية معنيّة بالملفّ، فإن الاعتداءات تأتي في سياق «رّد ثأري» نفذته عصابة خطيرة يتزعمّها المدعو محمد جعفر المعروف باسم محمد الدورة ومجموعة من أقاربه (بينهم شقيقه وابن عمّه)، بعد أن قام الجيش الأسبوع الماضي بعملية دهم لمنزل يسكنه المدعو جوزف جعفر قرب مفرق إيعات (تل الأبيض) في محاولة لاعتقاله، وهو أحد أبرز المطلوبين في عصابة الدورة. إلّا أن العملية أسفرت عن مقتل جوزف وثلاثة من أفراد عصابته (اثنان من عناصر العصابة من آل جعفر وثالث من آل زعيتر)، بعد أن عمد المطلوبون إلى إطلاق النار على القوة الأمنية.
وفيما تؤكّد المصادر العسكرية بأن الدورة وعصابته يقفون خلف الاعتداءات، مشيرةً إلى أن أعضاء العصابة فرّوا إلى منطقة جردية على الحدود اللبنانية ــ السورية، انتشر تسجيل صوتي للدورة أمس، ينفي فيه قيام عصابته بالاعتداء على الجيش، وهو ما عدّته المصادر العسكرية «تضليلاً»، مؤكّدة بأن «الدورة وغيره من المطلوبين الذين يعتدون على جنود الجيش، سيمثلون أمام القانون عاجلاً أم آجلاً».
من جهته، ينفي أحمد صبحي جعفر لـ«الأخبار»، أحد أبرز وجهاء العشيرة، أن يكون أبناء آل جعفر، هم من اعتدى على الجيش، مشدداً على أن هناك «طابوراً خامساً يسعى للفتنة بين آل جعفر والجيش»، مؤكّداً أن «أبناء عشيرة آل جعفر وأهالي البقاع الشمالي هم في تصرّف الجيش ولا يمكن أن يكونوا ضد الدولة». ويشير جعفر، إلى اتصالات «غير مباشرة» حصلت مع الجيش بعد مداهمة إيعات، مضيفاً: «نحن إزاء الاعتداء على الجيش نطالب القضاء بتحقيق شفاف لتبيان الحق واليد الغريبة التي امتدت على الجيش ونفذت الاعتداء الذي لا يرضى به لا الأوادم ببيت جعفر ولا حتى المطلوبين».
وفي الوقت الذي عزز فيه الجيش إجراءاته الأمنية في مدينة بعلبك وجوارها، عقد في منزل أحمد صبحي جعفر اجتماع ضم فعاليات من آل جعفر وشريف ومشيك ونون، وصدر عن المجتمعين بيان سألوا فيه: «إلى متى سينفذ دائماً حكم الإعدام بحق الشباب البقاعي على الحواجز وفي المداهمات؟ وهل أصبحت تصفية المطلوبين بمذكرات التوقيف أو أحكام غيابية مباحاً فقط بحق البقاع وحصراً ابن بعلبك الهرمل؟». وشدّد المجتمعون في بيانهم على أن «الإفراط في استخدام القوة أخطر بكثير مما ارتكبه شهداؤنا المظلومون من عائلات المنطقة، وكل ذلك يدفعنا للمطالبة بإلغاء الخطة الأمنية المشؤومة وإصدار عفو عام فوراً وطرد كل من يحول الجيش من حامٍ إلى جلاد».
وإذا كان الهدوء عاد يوم أمس إلى حي الشراونة، إلا أن بلدة نحلة لفّها الحزن والسواد والغضب بعد شيوع خبر استشهاد العريف رؤوف حسن يزبك. خبر الاستشهاد نزل كالصاعقة على ذويه وأبناء البلدة المطلة على حي الشراونة، والتي تستعد لتشييعه صباح اليوم. وقال والد الشهيد إن «ابن 21 ربيعاً وهب دمه فداء للوطن ولا بد للجيش أن يقدر ذلك ويوقف المخلين بالأمن»، في حين طالبت خالته قائد الجيش العماد جوزاف عون، بـ«حماية أبنائهم الذين يتعرضون للقتل». من جهته، أكّد مختار بلدة نحلة علي حويشان يزبك أن «العائلة نزلت عند طلب قائد الجيش بالتزام الهدوء وضبط النفس، لكننا نؤكد أن الهدوء سيكون إلى حين معين وسنمنح الوقت الكافي لمعالجة الأمر، على أمل أن يسمعنا مسؤولونا ودولتنا وتنقذ المنطقة من القتل والسرقة والسلب». وعلمت «الأخبار» أن العماد عون اتصل بالعائلة وطلب من أفرادها «التمنّع عن أي رد عشائري أو قبلي»، مؤكّداً أن «الجيش سينال من الجناة ويحضرهم أمام العدالة».