كان صراخًا موجوعًا. بل كان وجعَنا جميعًا، بنسبٍ قد تتفاوت في تفصيل ما. لكنّه لم ولن يتعدى كونه "تنفيس احتقان" او "فشّة خلق" تؤجّل الانفجار، أو تخفّف لبرهة ثقل الهموم عن كتف انسان مرهق ومهدور الحقوق الإنسانية بحدّها الأدنى.
بعيدًا عن المصطلحات السياسية الاقتصادية التي توصّف بلادنا، ثمة حقيقة لا يمكن التغاضي عنها وهي أن الفساد في الإدارات وسائر المرافق العامة والمشتركة ليس لقيطًا وُجد في حاوية النظام، بل هو جزء أساسي لا يمكن لنظام استهلاكي غير منتج أن يؤدي دوره تجاه "التجار الكبار" بدونه. بكلام آخر، مشكلة الفساد في لبنان ليست حالة عرضية يغيّرها الإصلاح، بل هو للأسف حالة "طبيعية" أو لنقل أعراض طبيعية ترافق الإصابة بمرض الارتهان للدول الغربية الكبرى التي بلادنا ساحة لاستهلاك بضائعها والسياسة واحدة من تلك البضائع الفاسدة التي يغير صانعها غلافها من حين إلى آخر كي يبيعنا اياها من جديد، وكي نشتريها بارتهاننا للبنك الدولي، ولحيتان المصارف وقروش المصارف المحليين.
بالدرجة الأولى يبدو من السذاجة أن نظن أن ضغطًا شعبيًا منظّمًا يمتلك مشروعًا وقيادة، مهما بلغ حجمه، سيتمكن من اقتلاع منظومة الفساد واستبدالها بمنظومة أفضل، لنقل أنظف. فكيف الحال ان كان هذا الضغط الشعبي مشتّتا وضئيلا نسبة إلى حجم الموجوعين، وكيف اذا كان مرتعًا، بشكل او بآخر، لطابور خامس من هنا، ولطابور سفارات من هناك، وكيف اذا استنسخ نموذجًا اوروبيا اعجبه في الآونة الأخيرة وجاء يطبّقه بدون ادنى تعديل على شكل التحرّك ذي المضامين المشتّتة كما لو أن أحدًا أو جهة تعمّدت تسخيف الوجع الذي كان دافعًا إلى الصراخ.. هذا الصراخ الذي حوّله الاعلام البارحة إلى أضحوكة!
بالدرجة الثانية، يبدو أيضًا من المستغرب تحييد المسؤولين الحقيقيين عن ازماتنا المالية المستمرة منذ بداية مشروع الحريري الأب وشركاه عبر تعميم وجهة الغضب لتطال حتى الذين يألمون مثلنا من جرح الفساد والفاسدين.
وتكرّ سبحة الدرجات التي تورطت في اظهار وجع الناس وكأنه حالة "نق" عابرة، مما زاد في احباط الموجوعين الذين اعتبروا ان اقصى ما يمكن فعله كان الصراخ، او البكاء او الغضب، وعادوا الى بيوتهم اكثر حزنًا رغم انتشار الڤيديوهات التي فيها من شرّ البلية ما يبكي ويضحك.
بكل الأحوال، ثمة وجع عابر لكل تشكيلات الصيغة اللبنانية. ثمة فساد طاول كل زاوية في حياتنا، وترك في حياة الفقراء جروحًا لا يخيطها صراخ ولا شعار يبعد الفاعل عن ساحة الجريمة. لكنّ كلّ ذلك ليس قدرًا، وليس حتمية وجب أن نعيشها بصمت.. لكن الثقة بمن وعد أن يكون ملف الفساد في أولوية العمل الحكومي ثقة تتسع لأن يكون الصبر فعل ايمان بصدق الوعد، ودليل عالٍ على أننا نريد العنب وليس قتل الناطور.
 

المصدر: خاص شاهد نيوز

المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع