تُقابل الدولة اللبنانية الانفتاح العربي على سوريا، ببرودة سياسية وكأنّ الأمر لا يعنيها. لبنان هو أكثر الدول المحتاجة إلى وجود علاقة طبيعية مع سوريا، ولكنّه مع ذلك يبقى «مُكبلاً» غير قادرٍ على أن يخطو أي خطوة باتجاه دمشق، طالما أنّ الحظر العربي لم يُرفع رسمياً عنها. ومقابل إعادة تنشيط العلاقات الخليجية والعربية مع سوريا، يمتنع لبنان عن دعوتها إلى حضور القمة الاقتصادية.
فَشَل مُخطّط إسقاط الدولة السورية وتغيير النظام فيها، دفع الدول العربية التي كانت مُشاركة في الحرب ضدّها إلى تبديل استراتيجيتها، والتسليم ببقاء الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة، وبالتالي البحث عن موقع لها ضمن هذا الواقع. بعد سبع سنوات من العداء ومن الاستثمار المُباشر، أو عبر الوكالة، في الحرب السورية، قرّرت الدول العربية الحليفة للسعودية التقدّم خطوات باتجاه دمشق، والعودة إليها. إلا أنّ «الكبرياء» يرفض التسليم بأنّ ميزان القوى الذي يميل لمصلحة سوريا وحلفائها، فرض عليهم هذه الحسابات، فيبدون مُضطرين إلى رفع عنوان «إعادة سوريا إلى المحور العربي» من أجل «تبرير» عودتهم بالسعي إلى إبعادها عن إيران. محطات كثيرة حصلت في سياق عودة حلفاء السعودية إلى سوريا: المصافحة بين وزيرَي خارجية سوريا والبحرين في أيلول الماضي خلال اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. والكلام داخل البرلمان العربي، في 11 الشهر الجاري الذي يرأسه السعودي مشعل السلمي، حول «أن تكون المصالحة العربية العربية شعار المرحلة المقبلة، وأن يتمّ رفع الحظر عن سوريا». ثمّ، في منتصف كانون الأول، حطّ الرئيس السوداني عمر البشير في سوريا. وقبل يومين، أُعيد افتتاح سفارة الإمارات في دمشق، بالتزامن مع انطلاق رحلة جوية سورية إلى تونس، قبل أن يصدر بيانٌ عن وزارة الخارجية في البحرين يؤكد استمرار العمل الديبلوماسي بينها وبين سوريا، أي عدم انقطاعه طيلة سنوات الأزمة، وذكر البيان أيضاً أنّ الرحلات الجوية «قائمة من دون انقطاع». تأتي هذه المحطات من ضمن سياق سياسي واسع لإعادة الاعتبار إلى دور سوريا وموقعها في الإقليم، ويُضاف إليها زيارات رئيس مكتب الأمن القومي السوري علي مملوك إلى مصر («الأخبار»، 24 كانون الأول) والسعودية وعُمان، التي زارها أيضاً وزير الخارجية وليد المعلّم. فضلاً عن الجهود الروسية المبذولة، من أجل عقد لقاء بين الرئيسين بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، في خطوة «معنوية» كبيرة، تُعيد تعبيد طريق سوريا إلى جامعة الدول العربية. وفي هذا الإطار، علمت «الأخبار» من مصادر رئاسية لبنانية تشكيل «لجنة مُصغرة، على صعيد وزراء الخارجية في جامعة الدول العربية، مؤلفة من لبنان والأردن والسودان وتونس والجزائر، يُجرون اتصالات ومشاورات لتبيان ردود الفعل العربية من إعادة عضوية سوريا إلى الجامعة، ودرس النيات لبحث إمكانية طرح الأمر أيضاً خلال القمة الاقتصادية».
جميع الدول الأساسية في العالم العربي، تقرأ المشهد السوري «بهدوء»، مُحاولةً حجز مكان لنفسها في مرحلة ما بعد الدمار، إلا لبنان حيث تستمر الدولة في تطبيق سياسة دفن الرأس في الرمال، نائيةً بنفسها عن التطورات. في 20 كانون الثاني، ستنعقد القمة العربية الاقتصادية في بيروت، التي كانت ستُشكّل المُناسبة الأمثل لتصحيح العلاقات الثنائية مع سوريا، ولكنّ لبنان لن يُوجه دعوة إلى دمشق لحضور القمّة، تحت حجة تعليق عضويتها في الجامعة العربية. يُصرّ لبنان على انتظار «كلمة السرّ»، قبل أن يستعيد علاقاته رسمياً مع سوريا، على رغم إدراكه أنّ مصلحته تفرض عكس ذلك. هناك ملّف النازحين السوريين ومواجهة مُخطط «المجتمع الدولي» لتوطينهم في لبنان، والعلاقة الاقتصادية والاستفادة من المعابر السورية لتسويق المنتجات اللبنانية، والدعم السوري للبنان في مواجهة الخطرين الإسرائيلي والإرهابي. يريد لبنان حلّ كلّ هذه المسائل، و«الأوقح» أنّه يسعى إلى أن يُثبّت نفسه محطة رئيسية في مشروع إعادة الإعمار، مُستفيداً من الأموال السورية، من دون أن يجد داعياً للحوار مع الدولة في الشام. كان يُمكن التذرع بالانقسامات الداخلية حول مقاربة الملفات الإقليمية، للهروب إلى الأمام نحو سياسة «النأي بالنفس». ولكن، حين تكون الإمارات والسعودية سباقتان إلى البحث عن موطئ قدم لهما في سوريا، تسقط النظريات والمزايدات اللبنانية. لماذا لا تؤخذ المواقف الخليجية والعربية «خيمةً» يتفيأ تحتها لبنان لاستعادة علاقته مع سوريا؟ ولماذا يسمح بأن تسبقه الدول التي شاركت في الحرب السورية إلى «تبييض صفحتها» مع الدولة هناك، عوض أن يكون مقداماً؟ ولماذا لا يُتوج وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل كلامه خلال توجيهه الدعوات لحضور القمة الاقتصادية بضرورة رفع الحظر عن سوريا، بتوجيه الدعوة لها للحضور الشهر المقبل؟
قرار تعليق عضوية سوريا في «الجامعة العربية»، عام 2011، اعترض عليه لبنان، وأتى مُخالفاً للميثاق والنظام الداخلي لـ«الجامعة»، لكونه لم يأتِ بالإجماع. بناءً عليه، «لا يُعتبر القرار مُلزماً للبنان، وبالإمكان تخطيه ودعوة سوريا إلى القمة»، بحسب مصدر رسمي لبناني. لكن مسؤولاً من وزارة الخارجية يقول العكس، مُعتبراً أنّه «حتى ولو لم يوافق لبنان على القرار، إلا أنّ مُجرّد اعتماده، يُصبح مُلزماً لكلّ الأعضاء. يُفترض أن يُعقد اجتماع جديد لوزراء الخارجية العرب ويُقرروا وقف تعليق عضوية سوريا، حتى نتمكن من دعوتها». وبما أنّ القمة الاقتصادية ستُعقد في كانون الثاني، «واجتماع وزراء الخارجية لن يحصل قبل آذار، بالتالي لا إمكانية لدعوة سوريا». الانقسام في الجواب حول إمكانية دعوة سوريا من عدمه، يُقابله «إجماع» داخل دوائر قصر بسترس حول «عدم قدرة لبنان على استضافة سوريا في القمة، من دون وجود جوّ عربي موافق، يترافق مع إجماع داخلي بين الرئاسة الأولى وفريق رئاسة الحكومة وكلّ القوى الرئيسية، وتعديل سياسة النأي بالنفس، حتى لا تُشكّل عودة سوريا عامل شرخ في لبنان». ويعتبر المسؤولون في الخارجية أنّ «الموضوع أكبر من وزير الخارجية، وهو بحاجة إلى توافق سياسي. علماً أنّنا في الوزارة غير مُقصّرين على هذا المستوى، ونحاول أن نعمل على أكثر من مستوى من أجل الدفع لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية»، فضلاً عن وجود «أفكار عدّة لكيفية مقاربة مشاركة سوريا في القمة الاقتصادية، كتوجيه دعوة للمشاركة في نشاطات القطاع الخاص».
إضافةً إلى انكفاء لبنان عن المبادرة أمام عدم وجود غطاء عربي صريح، وفي ظلّ الانقسام الداخلي المُستمر، يتحدّث المسؤولون في «الخارجية» عن أنّه «في حال أراد لبنان توجيه الدعوة إلى سوريا، فلن يُسمح له عربياً بأن يأخذ المبادرة وتُصوّر عودة سوريا إلى الجامعة العربية وكأنّها تمّت من بيروت، بل سيُترك الأمر إلى آذار ليصدر قرار إنهاء الحظر من القاهرة، نظراً للدور المعنوي العربي الذي تملكه مصر».