يُريد العدو أن يعتدي على لبنان، ثم يريد من المعتدى عليه ألا يردّ، مروّجاً بذلك أسلوباً خرافياً للابتعاد عن الحرب. ربّما تكون الحافزية للحرب لدى إسرائيل زادت أخيراً، في الخطابات والبيانات، لكنّها تدرك تماماً أن حزب الله لن يجاريها بـ«ردّ شكلي» على اعتداءاتها، كما أكّد مراراً السيّد حسن نصرالله، وبالتالي هي تخشى «الرد التناسبي» وما بعده
أجهد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، تامير هايمن، نفسه ومستمعيه، في الشرح المسهب الذي قدّمه لتقديرات استخباراته، الذي خلص به إلى أن احتمال نشوب حرب واسعة النطاق في مواجهة حزب الله ما زال متدنيّاً. ومع ذلك، بحسب هايمن، فإن القوة الكامنة لحصول تصعيد، وبالتالي التدهور إلى حرب، آخذة بالازدياد.
تقديرات هايمن التي وردت في كلمة ألقاها قبل أيام، في مؤتمر صحيفة «كالكاليست» الاقتصادية في تل أبيب، تكتسب أهمية خاصة لكونها مخصصة للبعث برسائل في أكثر من اتجاه ومن بينها إلى الجانب اللبناني. خلاصة الرسالة، كما وردت على لسانه، تكمن في حل التعارض بين استبعاد الحرب وارتفاع معقولية نشوبها: «يمكن أن يرتكب حزب الله خطأ، فيردّ بصورة غير محسوبة ضد إحدى هجماتنا، سواء كان ذلك في لبنان أو في مكان آخر، وهذا الرد يكون استناداً إلى تقدير الحزب أنه لن يؤدي إلى حرب. هذا التقدير مرتبط بالحظ وبالشكل الذي يتدحرج فيه الرد. معنى ذلك أن حزب الله لا يريد حرباً، لكن عملية (ردّ) غير محسوبة من قبله يمكن أن تؤدي إلى تصعيد واسع».
في كلام هايمن مغالطات و«تحايل» على الوعي من خلال تبديل تموضع الجانبين بين المهاجم والمدافع، وتحديداً ما يتعلق بنقل مسؤولية التسبب بنشوب الحرب من المعتدي، الذي يقدم على الاعتداء ابتداء، إلى صاحب الحق الطبيعي في الرد. لسان حاله يقول إن علينا الاعتداء وعليكم الانكفاء. هنا، يشار إلى الآتي:
واضح أن رسالة هايمن محاولة في سياق محاولات إسرائيل للتأثير في وعي الطرف الآخر، ودفعه إلى الانكفاء، وذلك في حال قررت المجازفة وتوسيع دائرة اعتداءاتها إلى الساحة اللبنانية. الرسالة لا تهدف إلى منع حزب الله عن الردّ، الذي باتت إسرائيل تدرك أنه حتمي، بعد تأكيدات قطعيّة صادرة عن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. بل هي تأتي في اتجاه تقليص الردّ إلى الحدّ الذي لا يؤثر في سياقات الاعتداء إن حصل. تهدف إسرائيل من هذا الأمر إلى أن تتمكن من معاودة الاعتداء، مع توقع أن تدفع أثماناً شكلية خالية من الأذى.
واضح أيضاً إصرار إسرائيل على ما يمكن وصفه بتلقائية الحرب، عبر تدحرجها من ردّ إلى ردود، وصولاً إلى الحرب، وكأنها عملية حسابية معلومة النتيجة مسبقاً بمجرد أن يرد حزب الله على الاعتداء. أما في حال الردّ، من دون أن يؤدي إلى حرب، فتكون هذه النتيجة عائدة بحسب كلام هايمن، إلى الحظ!
وعلى رغم أن هايمن نقل مسؤولية التسبب بالحرب من المعتدي إلى المدافع، انطلاقاً من أن لإسرائيل الحق في شن هجمات على لبنان أو غيره من الساحات، بينما على الطرف الآخر الإذعان والانكفاء وإلا تسبب بحرب لا يمكن تحملها، إلا أنه أغفل، أمام جمهوره، أن إسرائيل أيضاً غير معنية بهذه الحرب التي تهدد لبنان بها. غير معنية إلى الحد الذي منعها طوال السنوات الماضية، على رغم الدوافع والحوافز وتناميها، من شن اعتداء على لبنان، ما خلا اختبارها في شن الهجوم بالقرب من جنتا (البقاع) عام 2014، الذي أعقبه ردّ من حزب الله.
لا مكان في المواجهات الواسعة والحروب للحظ أو «الضرب بالمندل». الحرب تأتي نتيجة قرار يتخذه طرف ضد طرف آخر، أو كلاهما معاً. لا توجد حروب تلقائية إلا في حال كان الأمر يتعلق بهجوم، أو ردّ يتسبب بتقديم موعد حرب كانت مقررة في توقيت لاحق. إن كانت إسرائيل غير معنية بنشوب حرب، فهذه الحرب لا تنشب تلقائياً، مع حظ أو بلا حظ. لو كانت إسرائيل تُقدّر أن الرد سيأتي شكلياً، أو لا رد بالمطلق، لكانت وسّعت ومددت اعتداءاتها على لبنان بلا مقدمات. الخشية هي من الرد التناسبي على الاعتداء، وكما تقول هي، من التدحرج في أعقابه إلى مواجهة صغرت أو كبرت، هو ما يمنعها في المقام الأول من الاعتداء.