ليس تحكّم مافيا الدواء بسوق الأدوية جديداً. منذ عقود طويلة، تخلّت الدولة طوعاً عن دورها، وتركت لهذه المافيا استيراد الدواء ولعب دور «السمسار» بينها وبين وكالات الأدوية الأجنبية، وتحصيل هامش خيالي من الأرباح على حساب الخزينة العامة وجيبة المواطن. هذا الأمر، على سوئه، ليس جديداً. الجديد، والصادم، أن الدولة نفسها تشتري الدواء نفسه بالمواصفات نفسها، ومن الوكيل نفسه... بأسعار مختلفة!
حصلت «الأخبار» على لائحة بأسعار عشرات الأنواع من الأدوية اشترتها وزارة الدفاع، في مناقصة أجريت نهاية العام الماضي، لمصلحة الجيش ومديريات الأمن العام والأمن الداخلي وأمن الدولة. أصناف الدواء المدرجة في اللائحة مطابقة إلى حدّ بعيد للائحة الأدوية التي تشتريها وزارة الصحة (بعضها أدرجه موقع وزارة الصحة ضمن لائحة الأدوية المخفضة العام الماضي). المقارنة بين اللائحتين تظهر، بوضوح، فارقاً شاسعاً يصل إلى 70 في المئة، بين السعر الذي دفعته وزارة الدفاع والسعر الذي تعلن عنه وزارة الصحة لبعض أنواع الأدوية. فسعر علبة دواء Herceptin 440 mcg، مثلاً، الذي يستخدم لمعالجة سرطان الثدي، يبلغ 3 ملايين و526 ألفاً و565 ليرة في لائحة وزارة الصحة، فيما تحصل عليه وزارة الدفاع بمليونين و936 ألفاً و515 ليرة، بفارق 590 ألف ليرة! الأمر نفسه ينطبق على معظم اللائحة التي تضمنت أدوية خفّضت «الصحة» أسعارها العام الماضي، وعلى رغم ذلك بقيت أعلى من أسعار وزارة الدفاع. فعلى سبيل المثال، خُفّض سعر دواء Kytril 1 ملغ (لمعالجة آثار علاج السرطان الكيميائي والعلاج الشعاعي) من 152 ألفاً و496 ليرة إلى 50 ألفاً و494 ليرة. إلا أن سعر الدواء نفسه لدى وزارة الدفاع يبلغ 39 ألفاً و129 ليرة (راجع الجدول).
مصدر في إحدى شركات الأدوية المعروفة أكّد لـ«الأخبار» أن الفارق في الأسعار لا يقتصر على وزارة الدفاع والصحة، «بل ينطبق أيضاً على تعاونية موظفي الدولة والضمان الاجتماعي. كل مؤسسة تشتري بسعر مختلف ولو كان البائع واحداً»!
دائرة المافيا المغلقة
أحد الضالعين في ملف الدواء يؤكد أن هذه «فضيحة منظمة ومدروسة. وهي واحد من وجوه التحايل على الدولة وهدر أموالها، ثم الضغط عليها للحصول على المزيد». ويدخل في هذا الإطار الانقطاع الموسمي لأدوية السرطان والأمراض المستعصية، «فالوزارة بعد صرفها موازنتها، تعمد إلى الاستدانة من الوكيل وتراكم ديونها، فتمتنع الشركات عن تسليمها الأدوية، وتصبح صحة المريض على المحك. عندها تعلو صرخة الوزير في مجلس الوزراء طالباً اعتمادات إضافية، لنعود وندور في الحلقة نفسها». وهذا النهج ليس محصوراً بوزير الصحة الحالي غسان حاصباني، بل يسري على كل سابقيه، إذ تمكنت مافيا الدواء دائماً من «تمرير عقودها» مع الوزراء على حساب المال العام.
وعلمت «الأخبار» أن وزير الدفاع يعقوب الصراف لفت إلى هذا التفاوت أكثر من مرة خلال جلسات مجلس الوزراء، وطلب من حاصباني لائحة مفصلة بالأدوية التي تحتاجها «الصحة» لتأمينها بسعر أقل، يوازي السعر الذي تحصل عليه القوى الأمنية الأخرى، إلا أن حاصباني قابل طلبه بالرفض.
حاصباني، من جهته، أكّد لـ«الأخبار» أنه ليس مطلعاً على أسعار الجيش «الذي يجري استدراجاً للعروض بشكل مستقل عن الجهات الضامنة الأخرى، ولا تبادل معلومات مع وزارة الدفاع في هذا السياق. طلبتُ من الوزير الصراف اطلاعي على أسعار الأدوية ولكنه رفض أيضاً». ولفت إلى أن «لا قرار رسمياً بوضع المناقصات بيد الجيش أو أن تجري أي جهة مناقصات عن الجهة الأخرى. هناك لجنة تنسيق أرأسها لكل الجهات الضامنة، وطلبت من الجيش الانضمام لعمل مشترك بيننا نجري على أساسه مناقصات مشتركة، لكنه رفض».
هل يبرر ذلك كله شراء «الدفاع» علبة الدواء بسعر أقل مرتين أو ثلاثاً عن «الصحة»؟ ولماذا يعتمد الوكيل نفسه أسعاراً مخفضة للجيش فيما تستورد وزارة الصحة كميات أكبر؟ يشير حاصباني إلى «تفاوت في البروتوكولات المتبعة بين الجيش ووزارة الصحة من الناحية العلمية. يمكن للجيش أحياناً أن يقبل بأمور لا نقبل بها، والعكس صحيح». وشدّد على أن الوزارة «تعيد إجراء المناقصات دورياً للحصول على سعر أقل وحسومات أكبر. لكن ميزانيتنا المحدودة تحول دون إجرائنا مفاوضات كاملة. فيما يمكن أن يكون لدى المؤسسات الموردة رغبة بدعم الجيش من الناحية الوطنية فتؤمن له عينات مجانية وتقدم له بعضها كمساعدات». ولماذا لا تستفيد الوزارة من هذه «الروح الوطنية» وتسلم المناقصات للجيش؟ يجيب وزير الصحة: «يحتاج الأمر إلى قرار سياسي في مجلس الوزراء».
الصحة رفضت الخفض
يستغرب الصراف كلام حاصباني، «فالقرار السياسي موجود فعلاً والدليل أنني أشتري نيابة عن أمن الدولة والأمن العام». القضية الرئيسية هنا أن «باستطاعتي تأمين دواء أرخص لأولادي، كيف أو لماذا؟ لا يهم. المهم التوفير على المواطن والدولة. لو أن وزير الصحة يؤمن الدواء بسعر أقل مما أؤمنه للجيش، لكنت عمدت إلى شراء الدواء عبره. لديّ أسبابي لعدم اطلاعه على السعر الذي اشتري به، حتى لا يستعمل هذا الأمر لتهديد الوكيل. ولكن ما هي حجته لعدم توكيلي بشراء الدواء نيابة عنه إذا كانت المصلحة العامة هي الأساس؟». وأكّد وزير الدفاع أنه طلب رسمياً خلال جلسات المجلس من وزير الصحة تزويده بكميات الدواء وأصنافه وأسعاره، إلا أنه «رفض لغاية لا أعرفها». وعن الطريقة التي يعتمدها الجيش لإجراء المناقصة، قال الصراف: «نقوم بمناقصة عادية وعند الانتهاء منها، أتفاوض مع الشركات الثلاث الرابحة وأضغط عليها للحصول على أسعار مخفضة أكثر.
ثم أطلب من مجلس الوزراء موافقة استثنائية لشراء الدواء عبر اتفاق بالتراضي لأنني تمكنت من تقليص السعر أكثر مما حصلت عليه عبر المناقصة».
فارق أسعار الدواء بين مؤسستين تابعتين للدولة يفترض أن يلفت نظر ديوان المحاسبة. مصدر في الديوان قال لـ«الأخبار» إن الأخير يجري مقارنات دورية «وفي بعض الأحيان يتم الوقوع على اختلاف السعر في بعض الأصناف. ولكن، لدى سؤال وكلاء الأدوية، يأتي الجواب بأن الجيش يضغط على الوكيل للحصول على السعر الذي يراه مناسباً، وأحياناً يتسبب ذلك بخسارة الشركات»! المصدر نفسه لفت إلى أن ذلك ينطبق أيضاً على القطاع الغذائي. إذ «يحصل الجيش على بعض أنواع الأطعمة، كالجبنة مثلاً، بسعر أرخص من قوى الأمن»!
سكرية: المافيا تتحكّم بمجلس النواب
يذكّر رئيس «هيئة الصحة حق وكرامة» النائب السابق إسماعيل سكرية بما أورده رئيس الجمهورية السابق إميل لحود (في كتابه «إميل لحود يتذكر»)، حين طلب وكلاء الأدوية 15 مليون دولار لإمداد المؤسسة العسكرية بالأدوية. لكنه، نتيجة الضغط عليهم، تمكن من خفض السعر إلى خمسة ملايين دولار فقط. يشير سكرية إلى أن «اللواء الطبي في الجيش يضغط لخفض الأسعار. في المقابل، يعجز مجلس النواب عن رسم سياسة دوائية، بسبب قوة تجار الأدوية الذين يتم التنسيق بينهم وبين النواب لتمويل حملاتهم الانتخابية في بعض الأحيان». ويعزو هذا التفلت إلى غياب المكتب الوطني للدواء «الذي يمكن عبره خفض الفاتورة بين 40 و50 في المئة لأن الدولة ستستورد عندئذٍ بنفسها من دون وسيط». ويعطي مثالاً على ذلك ما حصل منذ سنوات، «عندما عرضت وزيرة الصحة السويدية بيع بعض أدوية السرطان إلى لبنان من دولة إلى دولة من دون المرور بالوسطاء وبسعر أرخص 40%، ما يوفر على الدولة سنوياً نحو 120 مليون دولار. وقد رفض طلبها، بحجة أن لبنان يعتمد الاقتصاد الحر»! ولفت إلى أن عدداً من النواب حاولوا سابقاً تقديم مشاريع إصلاحية في هذا الصدد «فتم تطيير نصاب الجلسات بضغط من تجار الأدوية. وهذا الكلام أكّده لي رئيس مجلس النواب نبيه بري في 30 تموز عام 2000 عندما تقدمت بسؤال عن أسعار الدواء. فجاء الجواب منه حرفياً: لقد استطاعت مافيا الدواء أن تعرقل أعمال مجلس النواب على مدى عقود خصوصاً في ما يتعلق بإطلاق المكتب الوطني للدواء».