منذ أيام انطلقت في المحافظات والمناطق الايرانية احتفالات احياء الذكرى السنوية الأربعين لوصول الامام الخميني الى البلاد في الأول من شباط/ فبراير 1979، وانتصار ثورته على النظام الملكي الموالي لأمريكا.
وبحسب أنصار النظام الاسلامي الايراني لا يعني ذلك بلوغها سن الرشد فقط،، لكنها أربعون عاما من النضج، والانجاز اللحظي الجمعي كما يؤكدون، حُرمت برأيهم الجماهير العربية فيها من دراسة التجربة وتطورها، بسبب الاعلام المعادي أو الطائفي الموجه غالبا من الدولة السعودية وأنصارها.
من مشاهداتي
لا مقارنة بين حالة الحرية والتعايش القائمة في ايران وأي مكان آخر وصلت فيه القوى الدينية الى السلطة. يسعى النظام هنا في ظل العباءة العلمائية الحوزوية الاسلامية أن يصنع نموذجا مختلفا، اذ تجد في الشارع الواحد من مدن ايران المعبد الزرادشتي، واليهودي، بقرب المسجد والكنيسة، والمرشد الأعلى وهو كذلك مجتهد ومرجع اسلامي يدخل حتى بيوت غير المسلمين في أعيادهم، ويتناول من ضيافتهم، وتحرص القوى الأمنية على حراسة مقرات الأقليات ومعابدهم باخلاص واضح، وهو ما سمعته من ايرانيين غير مسلمين، تجسيدا لتوصيات اعلى المؤسسات الايرانية.
بين اسلامين
في دولة اسلامية كالسعودية المصنفة كدولة دينية اتبعت اسلاما سياسيا بعد الدولة العثمانية، وإسلام إيران تجد الأمر مختلفا، الآخرون من غير المسلمين على المذهب الوهابي مضطهدون، سواء من السنة الحجازيين أتباع المذاهب غير الوهابية خصوصا الشافعية والمالكية، أو الزيدية والاسماعيلية في الجنوب، أو الشيعة المنتشرين في كافة مناطق المملكة والمنطقة الشرقية خصوصا، ويعيشون القمع بسبب مطالبتهم وقف التمييز ضدهم. يتمركزون في مناطق الثقل النفطي والاقتصادي، دون أن يساهموا في ادارتها. لقد وصل الحال أن تسهل السلطات وصول الانتحاريين التكفيريين الى مساجد المسلمين الشيعة في القطيف والدمام، والقيام بالعمليات الارهابية التفجيرية التي أودت بحياة الابرياء.
مؤخرا فرت فتاة من منطقة حائل شمال السعودية معلنة كفرها بالديانة الاسلامية وفق ما تعلمته في السعودية، كما قالت انها تلقت تهديدات بالقتل، وقبلت كندا منحها اللجوء الانساني. في الغرب المتصيد بدأت الحملة دون تمييز على القوانين الاسلامية ضد المرأة، في محاولة لتصوير النهج الوهابي السعودي باعتباره الدين الاسلامي، وهو تناول سطحي، متجاهلين ان التوجه السعودي برمته وبشقيه السياسي والديني انتاج استعماري بريطاني رعته لاحقا امريكا وتمسكت به.
ومع تحول العالم الى قرية صغيرة يسهل فيها التواصل ويتعلم الشباب والشابات طرق التخلص من جحيم الخوف والضغط، المترافق مع التنفر من السلوك الديني المتشدد، والتطبيق السطحي للاسلام، صلاة بالإكراه فاقدة لمعناها الروحي، والتكفير بحجة مخالفة الرأي الآخر فلا يعترف بمذاهب ما يقارب 40% من شعب المملكة. وبحسب رصدي لتغريداتهم على مواقع التواصل الاجتماعي فقد قرر قسم هجران الدين، الذي يأمر بقتل وتجويع أبرياء وأطفال اليمن، ويسلم اموال الحج للأمريكيين، ويأمر بتذويب صحافي خالف رأي ولي الأمر (أي الملك) مع انه موال للنظام السعودي.
هي الحقيقة
تربطني الصلات بكثير من العلماء والمثقفين والناشطين، واملك أن أقول: لقد باتوا يميزون بين اسلامين يسودان في الساحة، اسلام تروج له السعودية متزمت يلغي الآخر، ويشرع للإرهاب والقتل كما تنص صراحة المناهج الدراسية السعودية بتكفير الفرق الاسلامية، وبين اسلام متنور يتعايش مع الآخر، ومستعد للعمل معه من أجل حماية الأوطان والانسان. فرق بين من تدرّس جامعاته كتاب الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد أشهر مؤلفات مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهاب، حيث تخلص الى كفر كل أنماط البشر عدا المؤمنين على منهج السلف بتعبيرهم، وبين جمهورية يلهمها الفكر التجديدي للامام الخميني الذي من اركانه مشروع الوحدة والتقريب الاسلامي، ويتفاعل فكرها الديني بقوة مع کتاب "دعوة الى التوحید" وهو رسالة الامام الخمینی الى میخائیل غورباتشوف، آخر زعماء الاتحاد السوفیاتی، وبتعبير أنصار خط الامام الخميني هو الاسلام المحمدي الذي لا يفرق بين شيعة وسنة. ولتحقيق هذا الهدف أسست في ايران المراكز الضخمة كمؤسسة التقريب، ومراكز الوحدة الاسلامية، بينما ينادي خطيب الحرم المكي المعين من الحكومة السعودية أن الحرب المهمة في العالم الاسلامي ليست ضد الصهاينة كما هي الاستراتيجية الايرانية، او ضد الاعداء الخارجيين من ناهبي ثروات الخليج بل هي حرب طائفية بين السنة والشيعة، في تماه مع الخطاب الاسرائيلي الذي يرى أن العدو الوحيد في العالم لاسرائيل هو ايران وحلفاؤها.
قبل أكثر من عامين تضمنت توصيات مؤتمر "من هم أهل السنة والجماعة؟" وحضره شيخ الأزهر وعدد من كبار رجال الدين، أن أهل السنة والجماعة هم "الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد وأهل المذاهب الأربعة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علمًا وأخلاقًا وتزكيةً". مؤتمر "غروزني" شكل في ذلك الوقت ضربة للوهابيين والسعودية، فقد اعتبر المؤتمر الارهاب التكفيري نتاجا للفكر الوهابي.
مغالطة
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان روج مؤخرا لخطوات هيئة الترفيه في المملكة التي كسرت كل المحرمات وفتحت الباب على مصراعيه للحفلات الماجنة في بلاد الحرمين، واعتبر أن الهدف مكافحة الأفكار المتشددة، قائلا نحن نعود إلى ما كنا عليه قبل عام 1979، إلى الإسلام الوسطي المعتدل! مع أن المجموعات المسلحة الوهابية ومنذ بدايات تأسيس السعودية دخلت في حرب ضروس مع القبائل العربية المسلمة، وقتل الالاف بحجة الدفاع عن التوحيد. في هذا العام نفسه بدأت الحرب الأفغانية السوفياتية التي تمثل ذروة دعم السعودية لـ (الجهاد الأفغاني!) بالاتفاق مع الامريكيين ضد الاتحاد السوفييتي، والذي توج بتأسيس تنظيم القاعدة تحت حماية حركة طالبان الافغانية التي لم يكن معترفا بها الا سعوديا واماراتيا!
عندما تضطر للمقارنة
برأي المرشد الأعلى في ايران علي خامنئي فإن الإسلام الشعائري فقط، هو اسلام أمريكي غير مبال أمام الطغيان، وهنا لا يقصد الجناح المقابل للشيعة (أهل السنة) أو الجزء المتصالح منه مع الشيطان الأكبر الامريكي فقط، بل يشمل بعض التيارات الشيعية ممن وصف بعضها بـ (التشيع اللندني) الذي يخدم الأعداء. في المقابل فإن كثيرا من الكتاب، بل حتى المنظرين ضد الجمهورية الاسلامية هذه الايام وبعضهم من تيار الاخوان المسلمين الذي مدت له ايران يد المساعدة، تجدهم يمجدون مملكة آل سعود، التي تعتبر الانتخابات والبرلمان بدعة وضلالة، في حين أن الرئيس في ايران يأتي بالانتخاب المباشر، وكذلك البرلمان، بل حتى الولي الفقيه وهو المرجع الأعلى والسلطة المشرفة على كل السلطات يعين بتصويت من خلال مجلس خبراء القيادة الـ 82 المنتخبين مباشرة من الشعب. في إيران انتخابات بلدية ونقابية وطلابية، وفي السعودية من يطالب بذلك تصل عقوبته الى الاعدام بقطع الرأس.
القنوات الفضائية الايرانية باللغات الفارسية والعربية والتركية والانجليزية والكردية فضائيات فاعلة بحسب مراقبتي خاصة برامجها التعليمية المتنوعة. على المستوى الفني سينمائيا ودراميا ايران الآن في مصاف الدول المتطورة، فن راق ذواق مؤنسن، الدراما الدينية كمسلسل النبي يوسف ومريم العذراء وفيلم النبي محمد معنية ببث القيم الدينية التي شكلت محور رسالات الأنبياء ولا تختص بالفكر الشيعي على حدة، أما سينما العائلة وكذا الدراما فقد باتت مدرسة متكاملة، تمنح المراة ادوارا ايجابية محورية وتعزز في الوقت ذاته قيم العائلة التي تحافظ على المجتمع من الضياع. بينما الفضائيات الممولة سعوديا تنتج مسلسلات لا تنتمي للقيم الاسلامية، كما ان التحالف السعودي يعادي تركيا سياسيا، لكن الاعلام التابع له حريص على بث الدراما التركية المتحللة، والهادمة لمؤسسة الأسرة.
سر القوة الايرانية
استطاعت ايران الثورة الصمود أمام هجمة شرسة على كل المستويات الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية في حرب عالمية ضدها استمرت ثماني سنوات، مع حصار مطبق، كل ذلك تحول الى فرص للاكتفاء والاعتماد على الذات، خبرات في المجال الأمني والعسكري، والاعتماد على المصادر الاقتصادية الأخرى غير النفطية، ريادة في المجال الطبي وصلت لدرجة مضاهاة الدول الغربية ومنها أمريكا وألمانيا، فما سر ذلك؟
أمس شاهدت فيديو مقتضباً للامام الخميني قبل الثورة يشير فيه الى حزنه العميق من مشهد شاه رضا بهلوي يقف ذليلا امام الرئيس الامريكي في تلك الفترة جون كينيدي كممثل عن الشعب الايراني. وكل خطابات الخميني لاحقا تؤكد ايمانه بأنه لا يمكن لأي دولة مهما كانت أن تكون قوة استراتيجية فاعلة، اذا لم تكن متحررة من أي ارتباط أو تبعية (لا شرقية ولا غربية). وكان اذا ذكر مصطلح تصدير الثورة يقصد بها هذه القيم في الحرية والاستقلال اضافة الى الركون الى الايمان بالله كعامل يحفظ حقوق كل الناس دون تمييز كما أوضح لي صديق صحفي هنا، وبرأيه فقد حرفت الدعاية المخابراتية المعادية لايران توصياته وصورت الامر على ان الامام يريد اجبار شعوب الدول الاخرى على اعتناق التشيع، وهو اتهام غير واقعي، ولو كان هذا هو هدف الحكم الجديد بعد الثورة لمارسوا ذلك في الداخل، بينما أشاهد هنا تمتع الجميع بالحرية الكاملة، على مستوى ممارسة شعائرهم، والالتزام بفقههم واحكامهم الدينية، كما ان للسنة الايرانيين في مناطقهم معاهدهم الدينية الخاصة بهم، وكل تعاملات ايران الخارجية مستندة الى مواجهة المشاريع الامريكية، وأصدقاء الأمريكيين، الصهاينة، ولذلك تجد السياسة الايرانية الخارجية مثلا أقرب الى ارمينيا المسيحية من اذربيجان الشيعية، وتدعم المقاومة الفلسطينية دون شروط، ويسقط الايرانيون دفاعا عن السنة قبل الشيعة في مواجهة المسلحين التكفيريين.
کاتب فلسطيني مقيم في ايران
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع