قتل نفسه لأنه ما عاد يحتمل الذلّ. ربّما لاحتمله لو كان له وحده، لكن أن يصل الذلّ إلى أولاده، فهنا اشتعل. مَن ابتزّه بمستقبل أولاده، مراراً، ليس مجرّد مدير مدرسة طالبه بأقساط متأخّرة. إنّها منظومة معيشيّة كانت تسوّر حياته، نعرفها جيّداً، وهي نفسها، بعناوين شتّى، ما زالت تسوّر حيوات كثيرين في هذه البلاد

فرضاً، وبدل أن يَقتل جورج زريق نفسه، كان قَتَل مدير المدرسة الذي «أذلّه»... هل كان ليتضامن معه أحد؟ هذه ليست دعوة إلى القتل، قطعاً، إنّما إشارة إلى أنّ «الرأي العام» لا يتعاطف معك، هذا إن تعاطف، إلا إذا كنت في موقع «الضحيّة». كان لينقلب «الشهيد» (كما وصفه البعض) شيطاناً أو، في أحسن الأحوال، مجرماً لا بدّ أن يُعاقب. تماماً عندما يموت أحدهم أمام باب مستشفى، لعدم امتلاكه المال، يخرج البكّاؤون للتضامن معه، ولكنّهم، هم أنفسهم أيضاً، كانوا سيخرجون طلباً لتعليق مشنقته لو كان «كسّر» المستشفى. هذه هي المعادلة. لا أمر بين أمرين في هذه المعضلة، إلا اللهم في ممارسة الصمت، جبناً أو يأساً، إنّما في المحصّلة هي هي.

الحكاية مألوفة. وقع جورج في ضائقة ماليّة. يحصل أن يطول أمد هذه الضائقة الشهيرة. يُمكنها من أن تُعمّر لسنوات (أحياناً مدى الحياة). ما عاد بإمكانه أن يُسدد الأقساط المدرسيّة لولديه. ما عاد يحتمل إذلال مدير المدرسة لابنه، على ما تقول العائلة، حيث «صفّه» مرّة خارج الصفّ، مانعاً إيّاه مِن إجراء الامتحان. منسّق اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصّة، يقظان ماضي، ينقل إلينا لغة ذاك المدير، بشارة حبيب، ويضيف: «علمنا أنّ لديه قلّة تهذيب في تعامله مع الطلّاب والأهل». الآباء ربما يُمكنهم أن «يبلعوا» أن يذلّهم أحد، مِن أجل أولادهم، لتجنيبهم ذاك الموقف، ولكن الأمر يختلف عندما يصل الذلّ إلى الأبناء. هنا ينتهي كلّ شيء.
جورج كان يعمل سائق أجرة. بالمناسبة، في بيروت وقبل شهر بالتمام، قَتلَ محمد شراب ولديه وانتحر خلفهما. السبب هو عينه: الفقر. شراب كان يعمل سائق أجرة أيضاً. آنذاك خرج مَن يلعنه لأنّه قتل ولديه. مسألة كانت شائكة. جورج اكتفى بقتل نفسه، ومع ذلك خرج مَن «يجلده» على ذلك، وهكذا. كان نقل ابنه مِن مدرسة «سيّدة بكفتين» (الأرثوذكسيّة) في الكورة، إلى مدرسة «أرخص»، مبقياً ابنته فيها. بعد مطاردة المدير له، في الآونة الأخيرة، قرّر أن ينقل ابنته أيضاً إلى مدرسة رسميّة (حكوميّة). طلب مِن المدير إفادة، إلا أنّ الأخير رفض، مشترطاً عليه تسديد المتأخرات قبل تسليمه الإفادة. هاتفه جورج وأخطره أنّه سيحرق نفسه أمام المدرسة. ربّما لم يصدّقه. فعلها جورج. هو مسيحي، والمدرسة مسيحيّة، وحكاية المدارس المليّة هذه في لبنان، عند مختلف الطوائف والمذاهب، يطول سردها. في لبنان تُفهم هذه وفق الآتي: «حتّى جماعتك ما عادوا يرحموك». جورج هو ابن مدينة الميناء الشمالية، يقيم في راس مسقا، وتلك المدرسة في بلدة بكفتين. كان الأب، بحسب رواية عائلته، عرض على مدير المدرسة أن يعمل لديه كسائق، وهكذا يُسدّد ما عليه.

لم يحصل على ذلك. زوجة جورج أصبحت تعمل في المدرسة، كعاملة تنظيفات، للغاية نفسها، فبادر المدير مرّة إلى خصم أكثر مِن ثلثي راتبها بدل المتأخّرات. راتبها الهزيل الذي يقرب مِن 500 ألف ليرة. باعت خاتماً كانت تحتفظ به، مقابل مبلغ زهيد، ليتمكن ابنها مِن إجراء الامتحان المدرسي. أتراه كان خاتم الزواج؟ هذه تفاصيل تزداد مأساة كلّما أوغلنا فيها أكثر. حاول منسق لجان الأهل، ليلة أمس، أن يتحدّث مع الابن المذهول. هو في سنّ المراهقة. لم يكن يتكلّم «وكأنّه في عالم آخر». سيكبر الابن وسيكبر الأب داخله. هذه أحداث لا تنتهي «في أرضها».
وزير التربية والتعليم الجديد، أكرم شهيب، يقطف اللحظة متعهّداً: «سأتولى متابعة تعليم ولدَي المرحوم جورج زريق وتأمين المنح اللازمة من أجل استكمال تعليمهما». بعض وسائل الإعلام راحت تُهلّل وتطبّل لهذا الإنجاز. شهيب لم يفته، في بيانه، أن يُشير إلى أنّ وزارة التربية «استوعبت خلال العام الحالي في المدارس الرسمية آلاف التلاميذ، الذين انتقلوا إليها من التعليم الخاص، بسبب صعوبة الظروف الاقتصادية». الوزير، وسلفه، وسائر الوزراء والمسؤولين، هل أولادهم وأحفادهم في المدارس الرسميّة؟ بالتأكيد ليس هناك مَن ينتظر جواباً. حكاية تلك المدارس الرسميّة، التي بعضها كـ«المسالخ» في العُرف السائد بين الناس، باتت مزمنة وقيل فيها كلّ ما يُمكن أن يُقال. بات وضعها عُرفاً سائداً في الثقافة الشعبيّة. لِمَ لا يُسن قانون يفرض على المسؤولين الحكوميين أن يكون أولادهم في تلك المدارس الرسميّة؟ علّ ذلك يؤدي إلى أن يُصلَح حالها، ويُصبح الناس، كلّ الناس، لا يرون أن تسجيل أولادهم فيها بمثابة الجريمة بحق الطفولة. في بلادنا لا يأمن الأهل على أطفالهم، أحياناً، على رغم تسجيلهم في مدارس خاصة، بمبالغ كبيرة، وبالتالي لنا أن نتصوّر كيف يكون «رعب» الأهل تجاه المدارس الحكوميّة. المدرسة التي أحرق جورج جسده أمامها، وبعد الضجّة التي أحدثها الخبر، أصدرت بياناً قالت فيه إنّها كانت «تعاطفت معه بسبب أوضاعه الاقتصادية، وأعفته مِن دفع الأقساط المدرسية، باستثناء رسوم النقليات والقرطاسية والنشاطات اللاصفيّة». طبعاً تضمن البيان تعييباً لأي كلام غير ذلك. هكذا، علينا أن نفهم أن جورج، ومِن شدّة فرحه بإعفائه مِن دفع الأقساط، قرّر أن ينتحر وبتلك الطريقة الملحميّة.


قبل نحو ثلاث سنوات، نزل أمين زين الدين مِن سيارته، التي «يعمل عليها» كسائق أجرة، وأشعل النار في جسده. حصل ذلك في بيروت. كان يحتج على محضر ضبط حرّره بحقه شرطي مرور. تفحّم جسده، لكنّه لم يمت. نجا. قال يومها: «أعمل لكي أوفّر لقمة عيش لأولادي». قبله فعلها الشاب عبد الرحمن الجويدي في صيدا. نجا أيضاً. فعلها احتجاجاً «لأننا تعبنا من البلد ومن كلّ شيء. لا كهرباء ولا ماء ولا شغل ولا شي». أما جورج فقد مات. وصل باحتجاجه إلى الحدّ الأقصى والأقسى. هناك مَن لديه ترف البحث في توصيف فعلته، أي إن كانت شجاعة أو جبناً، وهي في الواقع تُلخّص بكلمتين: احتجاج أخير. قديماً قال أسلافنا: «الوجع ما بيوجع إلا صاحبه». باختصار، فعلة جورج هي احتجاج على كلّ المنظومة التي كانت تسوّر حياته. احتجاج، ربّما يلمس الأحياء مِن بعده أثره، إلا أنّه هو الوحيد الذي لن يرى النتيجة... إلا اللهم إن كان يُراقب مِن بعيد، مِن مكان ما، مِن عالم اقتنع أنه، وفي أسوأ الأحوال، لن يكون أكثر جحيميّة مِما كان فيه.



«لفعل شيء ما»
يبدو أن اتحاد لجان الأهل في المدارس الخاصة، إثر ما جرى على جورج زريق، قرّر أن ينظّم تحركاً احتجاجيّاً «حتى لا يضيع دمه هدراً». بالنسبة إلى منسّق الاتحاد، يقظان ماضي، ما حصل «ليس عابراً، نُريد أن نتحرّك لكي لا يكون هناك أكثر مِن جورج زريق. يوم الإثنين المقبل سندعو إلى اعتصام، وسنقف أمام عائلة جورج، لا بدّ لنا مِن فعل شيء». كثيرون أمس، بعدما شاع الخبر، شعروا أنّ عليهم فعل شيء. أحد المواطنين نزل منفرداً، يحمل العلم اللبناني، واعتصم أمام مبنى وزارة التربيّة. قال إنّه سينام هناك إن لم ينجح في الحديث مع الوزير. تواصل معه هاتفيّاً، وقال له: «أنا لا أعرف جورج، وعليكم أن تتكفلوا بأولاده، لن أترك قضيته». مواطن آخر، وفي وقت لاحق، قصد الوزارة وكتب على أحد جدرانها «جورج شهيد». أوقفته القوى الأمنيّة. البعض يتوقّع أن ما حصل لجورج يُمكن أن يكون مناسبة لانطلاقة احتجاجيّة واسعة. هذا وارد، ووارد أيضاً أن تكون مجرّد ضجّة لأيّام معدودة، قبل أن يُقدَّم عنوان جديد لضجة أخرى، ثم يبقى كلّ شيء على ما هو عليه.

المصدر: محمد نزال - الاخبار