قبل نحو شهر، مُنع الجيش اللبناني من التحرك لمنع العدو الإسرائيلي من احتلال أراضٍ لبنانية «متحفظ عليها» في منطقة العديسة الجنوبية. قضم العدو ما يوازي 144 دونماً من أراضٍ يملكها لبنانيون، والدولة في غفوة متعمّدة، فرضتها التهديدات الأميركية. العدو عاود في الأيام الماضية استكمال قضمه للأراضي في بقعة «الطيارة»، و«لا حياء لمن تنادي»...

عاجزاً، يقف الجدار الإسمنتي قرب مستوطنة المطلّة في شمال فلسطين المحتلّة، عن حجب الرؤية. هنا من كفركلا، تبدو قمم جبل الشيخ البيضاء متصّلة بالسماء، وتحتها السفوح الغربية للجولان السوري المحتل، تشكّل امتداداً طبيعياً للجنوب اللبناني، والشمال الفلسطيني، بالحقول المخضرّة وغابات الصنوبر والشربين المتناثرة على جانبي الحدود المصطنعة. وحده جدار الموت الإسمنتي، المجبول بالرعب والانعزالية والعنصرية، يحاول أن يحول بين الحياة والحياة، أن يوقف تدفّق العشب والهواء والشمس.

من خلف الساتر الترابي، في فجوة بنحو مئة متر في الجدار قرب بوابة فاطمة في كفركلا، يطلّ مصوّر جيش العدو مسترقاً النظر، مستطلعاً زوار الصباح. القناع الأسود يغطّي وجهه، وفي يده اليمنى كاميرا، لكنّه سرعان ما يختفي، مفضّلاً أن يتنازل عن الصورة خشية تصويره. في هذه البقعة، «نقطة تحفّظ» (يوجد 13 نقطة تحفّظ على الحدود اللبنانية - الفلسطينية هي الفارق بين الخطّ الأزرق وخطّ الهدنة، يعتبرها لبنان أراضي لبنانية محتلة) بعمق 7 أمتار خلف الخطّ الأزرق، بحسب اتفاقية «ترسيم الحدود النهائي» بين لبنان وفلسطين، التي وقّعها المقدّم بوليه (N. PAULET) ممثّل الاحتلال الفرنسي، والمقدّم نيوكومب (S.F.NEW COMB) ممثل الاحتلال البريطاني في العام 1923 (راجع «الأخبار»، 15 شباط 2018).
صباح الخميس الماضي، استكمل العدوّ أعمال الجرف والحفر تمهيداً لإكمال بناء الجدار، إلّا أن أكثر من مصدر معني بالحدود هنا، يؤكّد أن العدوّ أوقف الأعمال تمهيداً للالتفاف على «التحفظّ»، واستكمال عمليات البناء خلف الأمتار اللبنانية السبعة. بالتوازي، بدأ العدو في وادي هونين مقابل بلدة مركبا، قبل أيام، باستحداث شيارات صخرية في محاذاة «الطريق العسكرية»، وافتتح ورشة هندسة في منطقة الرميش قرب الخط الأزرق.
على يمين الطريق في كفركلا، تقف دورية للجيش اللبناني وعلى بعد مئة متر دورية لقوات الطوارئ الدولية (اليونيفيل). ما إن يحاول الزّوار الوقوف على الحافة الإسمنتية الضيقة قرب السياج الشائك، حتى يسارع الجنود إليهم، «لا تجتازوا الحافة الإسمنتية... العدو قد يرسل وثيقة فوراً للإبلاغ عن خرق للخطّ الأزرق»! ومع ذلك، يروح ويجيء جنود العدو وآلياتهم وموظفو شركة التعهدات التي تبني الجدار داخل أراضي «التحفّظ».
صعوداً نحو عديسة، يظهر عاملان في رافعة وهما يضيفان فوق الإسمنت عوائق حديدية مشبّكة. وعلى ضخامة الأعمدة الإسمنتية عن قرب، تظهر صغيرة ما إن تنحرف السيارة صعوداً نحو تلّة قليلة الارتفاع تطلّ على كامل البقعة. وتبدو أمامها الخيمة التي نصبها جيش الاحتلال فوق فوهة ما ادعى أنه نفق، وقام بإغراقه بحمولة 400 جبّالة من الإسمنت السائل، على مرمى حجر، حرفياً... تماماً كما كان رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو حين أتى ليستعرض إنجازاته الوهميّة، وحين حجّ قائد القيادة الوسطى في الجيش الأميركي جوزف فوتيل قبل نحو عشرة أيام في زيارة للكيان ليسمع «مظلومية» العدو ويتعاطف معها، فوراً بعد زيارته بيروت.
هنا يفهم الزائر جيّداً، كيف أن هذه الجدران عديمة الجدوى أمام الجغرافيا، وأن واضعيها، وهم يخنقون كيانهم بالجدران العازلة، يبيعون وهماً لمستوطني الشمال بأن هذه الإجراءات ستحميهم، إذا ما قررت المقاومة فعلاً تنفيذ تهديداتها بالوصول إلى الجليل. «هوّنوا علينا القفز فوق الجدار، حبال الرابيل (القفز) تعلق أكثر على الحديد منها على الباطون»، يعلّق «الدليل» ساخراً، وهو أحد أبناء المنطقة. المفارقة، أن هذا القروّي وغيره من السكّان الذين يتابعون حياتهم اليومية بطمأنينة، يحفظون عن ظهر قلب ضبّاط العدو الذين يتنقّلون على المقلب الآخر من الحدود، وجوهاً وأسماء وقطعات ومهام، كما يحفظون سيارات العمال ومسؤولي الورشة وأوقات العمل، ويملكون التفسير الدقيق، لأي تحرّك للعدو، مدنياً كان أم عسكرياً.

خرق عديسة... والصمت المطبق!
صعوداً من خلف حاجز الجيش اللبناني الذي شهد «معركة الشجرة» في عديسة عام 2010، تُوصل الطريق إلى منطقة «الخرق الأكبر»، والنقطتين B79-B86 و BP37-B86، المطلة على مستعمرة «مسكافعام». ما إن تلاحظ دورية القوات الدولية، حركة ما، حتى تستنفر وتبدأ اتصالاتها لاستطلاع هويّة الزوّار. في الأيام الأخيرة، استكمل العدو ضم الجزء الأكبر من منطقة «التحفّظ» في عديسة إلى داخل الجدار. من على الطريق العام، تظهر عشرات أشجار الصنوبر البري اللبنانية خلف الجدار، في مساحة 144886 متراً مربعاً، من الأراضي اللبنانية التي يملك أهلها من أبناء القرى أوراق «طابو» تثبت ملكيتهم لها. ولعلّ هذه البقعة، هي الأكثر أهمية واستراتيجية من ضمن نقاط التحفّظ الـ 13، إضافة إلى نقطة رأس الناقورة، التي تعرف بـ B1-BP1، ومساحتها 3341 متراً، عدا عن ثلاث نقاط تحفّظ «شعبية» في ميس الجبل وبليدا وعيترون، يرفض أهلها الاعتراف بالخطّ الأزرق فيها لملكيتهم هذه الأراضي الزراعية، وهم يزورونها اليوم بالتنسيق بين الجيش والأمم المتحدة.


في 10 كانون الثاني الماضي، «جسّ» العدو نبض الدولة اللبنانية، بتحريك جرافة في هذه البقعة (عديسة - مسكافعام) المعروفة لبنانياً بـ«تلة المحافر»، فكان ردّ الجيش اللبناني سريعاً، بنشر جنوده وآلياته. وفي مقابل دبابات العدوّ، نشر الجيش مجموعة من الصواريخ المضادة للدروع، بعضها ظاهر وبعضها مخفي عن عيون العدو. وبعد أن بدأت الاتصالات وحضرت عناصر القوات الدولية وضبّاط الارتباط الفرنسيون والإيطاليون، توقّف العدو عن تحريك الآليات. لكنّ المفارقة، أن العدو عاد للعمل بعد ساعات، ولم يعر اهتماماً لمجلس الدفاع الأعلى الذي انعقد مساء ذلك الخميس، واتخذ فيه قرار منع الجيش اللبناني من التحرّك منفرداً، إلّا بأمر من المستوى الأعلى في السلطة اللبنانية. في اليوم التالي، أي يوم الجمعة 11 كانون الثاني، وصلت التعليمات إلى قطعات الجيش على الحدود بعدم التحرّك إلّا بناء على الأوامر، بالتوازي مع شروع العدو بأعمال البناء على نطاق واسع.
وبحسب المعلومات، وضع العدوّ حتى الآن 480 «T» إسمنتية، أي ما يعادل 720 متراً من الباطون، قاضماً مساحةً ضخمة من الأراضي اللبنانية، وهو عاد قبل أربعة أيام للعمل مجدداً على قضم أراضٍ جديدة في البقعة نفسها، المسماة لبنانياً منطقة «الطيارة» من دون أن يحرّك أحد في الدولة اللبنانية ساكناً، وعلى مرأى ومسمع من القوات الدولية.

التهديد الأميركي وخسارة أوراق القوّة
لم يوفّر أي مسؤول أميركي زار لبنان خلال العام الماضي، فرصة إلا ومارس فيها الضغط على الدولة اللبنانية بهدف فصل ملفّ الصراع «الحدودي» في البر عن الصراع «الحدودي» على البحر. أراد هؤلاء انتزاع أوراق القوّة في البرّ من يد الدولة، مثل نقطة عديسة، تمهيداً للبدء بانتزاع أوراق القوّة في البحر، مثل نقطة رأس الناقورة التي تؤثّر تأثيراً مباشراً في حصّة لبنان من المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر، وتالياً حصة لبنان من النفط والغاز في الحقول الجنوبية المشتركة مع فلسطين المحتلة. من محاولات «الوسيط» الأميركي السابق فريديريك هوف، إلى زيارة وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون إلى بيروت العام الماضي وقبلها نائبه ديفيد ساترفليد، وبعدهما نائب وزير الخارجية الحالي ديفيد هيل، يكرّر الأميركيون مطالباتهم بفصل ملفات الحدود البحرية عن البريّة. ومع أن اللبنانيين خرجوا بموقف موحّد، وهو رفض هذا الفصل أمام الموفدين الأميركيين، إلّا أن ذلك لا يخفي الانقسام اللبناني الضمني. إذ يعتبر رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل، أن فصل الملفين عملاً بالطلب الأميركي، هو ما يحمي حقوق لبنان وأن البديل عن المواجهة هو لجوء لبنان إلى التحكيم الدولي عملاً بقانون البحار، وكأن قرارات «منظمات العدالة الدولية» أتت يوماً بنتيجة أو أعادت حقوقاً للبنان أو فلسطين، في مواجهة الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل. فيما يتمسك الرئيس نبيه بري وحزب الله بضرورة ربط الملفين، واستخدام أوراق القوّة في البرّ للحفاظ على الحقوق في البحر. ومن هذه الأوراق، مسألة بقعة عديسة، التي يصرّ العدو الإسرائيلي على الحصول عليها بهدف حماية مستعمرة «مسكافعام»، وكان قد عرض في السابق التنازل عن هذه البقعة المرتفعة مقابل إعطاء لبنان بقعة منخفضة قريبة، وقوبل طلبه بالرفض.
وليس خافياً أن التهديدات الأميركية، ومعها الضغوط الفرنسية والبريطانية، تعاظمت في المرحلة الأخيرة، مع تأكيد تلك الدول بأن العناد لن ينفع لبنان برفضه فصل الملفين، وأن إسرائيل ستعمل على ضمّ بقعة عديسة بالقوة، وهو ما أبلغه ضبّاط العدو للجيش اللبناني خلال اجتماعات اللجنة الثلاثية في الناقورة بتاريخ 11 كانون الثاني الماضي.

أي استراتيجية مواجهة؟
أمام تحوّل احتلال العدو لبقعة «التحفّظ» في عديسة إلى أمر واقع، لا بدّ من طرح مجموعة من الأسئلة، تتعمّد السلطة السياسية عدم الإجابة عنها، أو إهمالها، في الوقت الذي لا يملك القادة العسكريون الأجوبة عليها، خصوصاً بعد أن مُنع الجيش من القيام بواجبه والوقوف بوجه العدو، كما حصل في ميس الجبل قبل نحو شهرين وقبلها في الناقورة.
أوّلاً، لماذا أعطيت أوامر مغايرة للجيش خلافاً للمرات السابقة التي ترك فيها له حريّة التصرّف بما يراه مناسباً لمنع العدو من الخرق البري؟ فإذا كان منع الخروقات الجوية اليومية صعباً بسبب عدم امتلاك الأسلحة المضادة للطائرات، ما الذي يمنع الجيش من منع العدو عن القيام بالخروقات البريّة، وهو يملك الحد الأدنى من السلاح المطلوب للاشتباك الأوّلي، وفي ظلّ وقوف المقاومة بقوتها البرية الكبيرة على كامل الحدود خلفه، وخشية العدو الإسرائيلي من الانزلاق إلى الحرب الواسعة؟
ثانياً، إذا استمر العدوّ بقضم الأراضي، وهو مستمر، ما الذي يعوّض لبنان عن نقاط القوّة في البرّ وما الذي يمنع العدو من استخدام الاستراتيجية نفسها في البحر؟ ثمّ من لم يستطع منع العدو من وضع الجدار الاسمنتي في الأراضي المحتلة، كيف سيجبره مستقبلاً على نزعها؟ أم ستتحول تلك الأراضي إلى مزارع شبعا محتلة جديدة وقرية الغجر محتلة جديدة؟
ثالثاً، ما هي خلفيات عدم الرّد؟ وما هو حجم التهديدات الأميركية؟ ما هي استراتيجية المواجهة المقبلة؟ وما هو تبرير دعاة فصل البحر عن البرّ وسط كل هذه العنجهية الإسرائيلية والتآمر الأميركي؟
رابعاً، كيف يجيب دعاة نزع سلاح المقاومة على أسئلة اللبنانيين، والمواطنين الجنوبيين تحديداً، طالما أن السلطة السياسية تمنع الجيش اللبناني من القيام بمهامه خضوعاً للضغوط الأميركية؟ وكيف يمكن للمواطنين الثقة بقدرة الدولة على حمايتهم وهم يرون العدو ينتزع أراضيهم من دون أي مقاومة؟ وكيف يمكن الركون مستقبلاً، للقبول بخضوع المقاومة لقرار الدولة اللبنانية الرسمي في أي استراتيجية دفاعية مقبلة، طالما أن الدولة تتجاوب مع الضغوط الدولية ولو على حساب حقوقها وسيادتها؟

المصدر: فراس الشوفي - الاخبار