يواظب الناس في لبنان على متابعة جلسات مجلس النوّاب كجمهور يحتفي بمشاهدة عرض مسرحي ارتجالي. ينتظرون دور شخصيّاتهم المفضّلة بالكلام، ومنهم من يتفّرج بداعي النقد، بنوعيه البنّاء والهدام، ومنهم من يتابع لاستخلاص ما يمكن من النكات التي تخفّف من وقع الألم المعيشي الحاضر في كل بيت من بيوت الفقراء. بشكل أو بآخر، يتابع الأغنياء الجلسات لاستكشاف احتمالات المشاريع التي قد تعزّز ثرواتهم أو تهدّدها، ويتابع الفقراء بحثًا عن بصيص أمل بتخفيف معاناتهم أو عن ضحكة تنسيهم الهمّ برهة.
باختصار، تعتبر جلسات مجلس النواب محطة إخبارية تحظى بنسبة عالية من المشاهدين. ولكل مشاهد ربّما خلفية تدعوه إلى المتابعة.
في حصيلة اليومين الماضيين، يمكن استحضار المشاهد والكلمات التي صاغها الناس أخبارًا وصورًا على مواقع التواصل الافتراضي وفي المقاهي وجلسات العمّال والموظفين في استراحاتهم وكذلك في أحاديث العاطلين عن العمل الذين وجدوا في الجلسات ما يمكن أن يلهيهم قليلا عن التفكير في مستقبلهم الذي لا تبدو ملامحه باسمة.
احتلت كلمة النائب جميل السيّد حيّزًا واسعًا من الاهتمام والإعجاب. بدا السيّد الجميل نائبًا حقيقيًا ينطق بهموم الناس واضعًا الإصبع على الجرح، بل على الجراح التي تمتد في شرايين الناس، كل الناس. كذلك، احتل النائب حسن فضل الله مرتبة النائب الجريء الذي يشير إلى الفساد دون بلوغ مرحلة فتح النار بتسمية الفاسدين صونًا لمصلحة الناس بالدرجة الأولى، على قاعدة "نريد أكل العنب وليس قتل الناطور". صحيح أن البعض طالب بالتسمية واعتبرها برهانا على المصداقية، إلا أن للسياسة موازينها التي تضع ما قاله فضل الله في محلّ الكلام الموزون. وامس، اعتلى النائب السيد نواف الموسوي مرتبة النائب عن القلوب التي تنبض بالمقاومة.. ذكّر الناس بما لا يجب أن ينسوه يوما حرصا على التاريخ والعدالة.. حدث أن انزعج مَن "نعرتهم مسلّة" الحقيقة.. لكن انزعاجهم لا يقدّم ولا يؤخر في حسابات العمل النيابي والعام. فمن بديهيات هذا الميدان أن يكون العامل به متمتعا بالمصداقية مع الذات والآخرين.. ومن شاء أن يكذب على نفسه وعلى الآخرين، أو أن يكذّب الوقائع التاريخية، فليجد له مؤسسة خاصة يقول فيها ما يريد ويستمع فيها إلى ما يحب سماعه، ولا ضير في أن يوظف لديه جمهورا من المصفقين.. وهو أمر حاصل أصلا في لبنان، وما زال "هارون" الشهير يشهد على هذا النوع من الأعمال في احدى التظاهرات التي جرت في بيروت قبل مدة.
من ناحية ثانية، لم يغب الاستعراض عن الحدث النيابي.. حتى خُيّل إلينا أنه قد انعكست لعبة تحوّل عارضات الأزياء إلى مجال الإعلام، وشهدنا بشكل أو بآخر انعطافة من مجال الإعلام إلى مجال الاستعراض، و"الموتوسيكل" شاهد ووسيلة.
أما بخصوص الصور التي تناقلتها الحسابات الافتراضية والتي تجمع بين نواب من حزب الله والنائبة مي شدياق، التي بدت ممتعضة بشدّة، ربما مصادفة، وربما لذاكرة خالها غير المشرّفة، بكلا الحالتين، من البديهي أن تكون مجالسة نواب المقاومة أمرًا لا تستسيغه شدياق، ومثلها كثر.
بالمشهد العام، بدت الجلسات صحيّة، خفيفة وحافلة بتناقضات "الصيغة اللبنانية" التي تجمع أحيانا بين أقصى الكرامة ومنتهى اللاكرامة، بين الفاسدين والشرفاء، بين السياديين الحقيقيين وبين المرتهنين وشعارهم السيادة، تحت سقف افتراضي اسمه "العيش المشترك" وسقف واقعي هو سقف البرلمان..
بكل الأحوال، هي جلسات منح الثقة أو حجبها عن الحكومة التي استمر مخاضها أشهرًا تسعة.. وهي جلسات البروتوكول الذي يتوجب على النواب الالتزام به لتأدية دورهم النيابي. أما نحن، فقد منحنا ثقتنا مسبقًا لمن نعرف أن كرامتنا وأيامنا بعهدة قوتهم ورزانتهم وحرصهم علينا.. لن تتغير هذه الثقة سواء نالت الحكومة المولودة حديثًا ثقة الجمع البرلماني أو لم تنلها.. فلبّيك التي قلناها في كل نبض ذات انتخاب، لا يغيّرها تجديد الحكومات، ولا نبدّل تبديلا..
المقالات الواردة في الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر عن رأي إدارة الموقع